معتز بالله عبد الفتاح
الجراح الذى يجرى عملية لمريض مصاب بورم خبيث منتشر فى أجزاء كثيرة من الجسم يحرص على تحقيق هدفه دون ارتكاب خطأين. الهدف هو البدء بالتخلص من الأورام التى لها تهديد مباشر وحال على حياة الإنسان. والخطأ الأول المرتبط بهذا الهدف هو أن يتوسع الجراح فى استئصال أجزاء سليمة من أجهزة الجسم لأن هذا سيعنى أن المريض سيحيا حياة تعيسة بعد العملية. والخطأ الثانى أن يضعف الجهاز المناعى للجسد لذا يترك للعلاج طويل المدى عبر العلاج الكيماوى والليزر والأدوية أملا فى بناء المناعة الذاتية للأمراض المختلفة.
الفساد والظلم والنيل من حقوق الفقراء والمحتاجين واستغلال المناصب والمواقع العامة من أجل تحقيق الصالح الشخصى أو الفئوى هو عمليا الورم الخبيث المنتشر فى كل مكان. وأقصد بكل مكان أى كل مؤسسات الدولة ومعظم مؤسسات القطاع الخاص بل وفى طريقة تفكير أغلب المواطنين. وهذا هو ما كنت أتحدث عنه تحت عنوان «القدرة الإفسادية للدولة المصرية» فى عهد مبارك. هذا الفساد انتشر وتوغل واستقر فى الكثير من العقول.
ولكن السؤال: ماذا نعمل حياله؟ هل حرق المحاكم وأقسام الشرطة والمبانى الحكومية وضرب الخصوم السياسيين وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة سيحل المشكلة ويقضى على الفساد ويبنى الوطن؟
لا توجد مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة لا تخضع الآن لهجوم من جهة ما لسبب ما. رصدت مع بعض الزملاء أن مصر فى آخر ثلاثة شهور تشهد متوسط 70 عملية احتجاجية يوميا (من إضراب لوقفة احتجاجية لاعتصام لمحاصرة مؤسسات حكومية لاعتداء على ممتلكات لقطع طريق أو وقف حركات المواصلات). تقريبا كل مرافق الدولة المصرية نالها شىء من هذا الاحتجاج أو ذلك. لقد تم فتح بطن كل أجهزة الدولة.
ولكن الملاحظة أن ما يُفتح من ملفات الدولة لا يتم علاجه أو إصلاحه وبالتالى لا يتم إغلاقه. ولهذا نحن لم نسقط النظام بعد، نحن فقط غيرنا وجوها بوجوه. وأمام هذه الحقائق، يرفع الثائرون شعارات: «الشعب يريد إسقاط.. ». والسبب فى ذلك مركب.
أولا، من يرد أن يصلح أو أن يطهر منشأة أو مبنى، فعليه أن يفعل ذلك من داخلها وليس من خارجها. من خارج المبنى، أنت لا تملك إلا تدميره أو حرقه. أما إصلاحه أو تطهيره فلا يكون إلا من داخله. وهذه هى المعضلة التى نواجهها وهى أن الكثير من الثائرين ومؤيدى الثورة لم يراوحوا مكانهم فى الميادين لإعلان عبارات الغضب ومطالب الإسقاط، ولم تتح لهم الفرصة للدخول إلى مواقع المسئولية كى يشاركوا فى عملية صنع القرار. ولو كانوا أصحاب مشروع فعلا، فسنجد آثارا لما يقولون. أما لو كانوا مجرد «هتيفة» فستغرقهم المشاكل الإدارية والقيود البيروقراطية والخلافات القانونية وينكشفون أمام الرأى العام.
ثانيا، الفجوة الزمنية بين المطلب والشعار من ناحية والممارسة والتطبيق من ناحية أخرى تكون كبيرة لأن الطموحات مرتفعة للغاية والواقع متواضع للغاية. وهى مشكلة موجودة فى كل الدول التى مرت بالربيع العربى أيا ما كان من وصل للسلطة فى مصر أو تونس أو ليبيا أو اليمن. وتونس تحديدا كان يفترض فيها سواء بحكم صغر عدد السكان أو بنية الطبقة الوسطى المتعلمة أو المسار الذى اتخذته (تحت شعار الدستور أولا)، كان يفترض أن تكون فى وضع أفضل كثيرا مما عليه الآن. لكن كلنا فى الهم سواء.
ثالثا، كل فساد مُدان، وكل ظلم لا بد أن يُرفع، ولكن الحكمة أن نعالج كل مرض فى وقته وبالآليات التى تناسبه. تطهير القضاء ضرورة، ولكن التدخل فى شئونه ومحاصرة محاكمه والضغط عليه جريمة. إخضاع كل المال العام، المدنى والعسكرى، المعلن والسرى، للرقابة سواء التشريعية أو القضائية واجب، ولكن هذا لا يعنى الدخول فى حرب أهلية أو اقتتال جماعى قبل الأوان.
فى أوقات كهذه، يختلط الأمر، فنسقط الدولة ونسقط الأخلاق ونسقط الثقة (وهما رأس المال الاجتماعى الضرورى لأى نهضة حقيقية) ونضعف مناعة المجتمع ونحن نظن أننا نسقط النظام؛ فينهار كل شىء، ويبقى النظام.
الحذر واجب، والحكمة ضرورة.
نقلاً عن جريدة "الوطن"