مصر اليوم
هذه العبارة تعنى أن المعاصرين لأمر ما أو لشخص ما قد لا يجيدون تقييمه أفضل تقييم، ثم تمر الأيام والشهور والسنون، ويأتى من يعيد قراءة المشهد والنظر إليه بدم بارد وبعقل مفتوح وبعيداً عن المصالح العاجلة المسيطرة على حسابات من يقف الوقت سيفاً مسلطاً عليه. كما أن الزمن، ثانياً، يعطى للناس فرصة الاطلاع على شهادات آخرين لم يكونوا ينصتون إليهم. ويعطى الزمن، ثالثاً، فرصة لنا لتقييم الآثار والبدائل التى كانت متاحة أمام صانع القرار آنذاك.
لذا فإن المعاصرة حجاب عن التقييم الموضوعى للأحداث والأشخاص والأفكار.
لا أنسى ما قاله توفيق الحكيم فى كتابه «عودة الوعى» عن الحقبة الناصرية وقد كان واحداً من المقربين لعبدالناصر. بل إن الطالب جمال عبدالناصر حسين كان قد قرأ لتوفيق الحكيم «عودة الروح» فى الثلاثينات، التى كان يتحدث فيها عن حاجة مصر لزعيم ملهَم وملهِم يعيد لها روحها ويجمع عليها شملها. ونسب البعض للرئيس عبدالناصر وصفاً لتوفيق الحكيم بأنه الأب الروحى لثورة 1952. ولكن يأتى توفيق الحكيم ليكتب فى عام 1972 فى كتابه «عودة الوعى» عن الوعى الذى ضاع من المصريين لأنهم وقعوا أسرى لسحر الرئيس عبدالناصر حتى فاقوا على هزيمة 1967 وكيف أن الرأى المخالف ما كان ليظهر إلا خلسة طوال هذه الفترة. وأعلن فى كتابه أنه أخطأ بمسيرته خلف ثورة 1952 بدون وعى قائلاً:
«العجيب أن شخصاً مثلى محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو فى كهولته يمكن أن ينساق أيضاً خلف الحماس العاطفى، ولا يخطر لى أن أفكر فى حقيقة هذه الصورة التى كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير، سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعى.. أهو فقدان الوعى.. أهى حالة غريبة من التخدير؟».
والأمر، بالنسبة لكاتب هذه السطور، ليس متصلاً بتقييم الحقبة الناصرية، ولكنه متصل بالمبدأ العام بأننا نحكم بما علمنا فى لحظة زمنية معينة بما تحمله هذه اللحظة من ضغوط وما تتأجج بها من مشاعر وما تتوافر فيها من معلومات.
ومن الأحداث الكبرى التى كانت فيها المعاصرة حجاباً، كانت فترة كتابة دستور 1923، وهى فترة كانت مليئة بالصراعات وعبارات التخوين والتشكيك؛ لأن حزب الوفد وأنصاره كانوا يريدون دستوراً تكتبه جمعية تأسيسية منتخبة، وليس لجنة معينة من الملك ومن يؤيدونه؛ لأنها ستؤدى إلى استبداد جديد وسترسخ حكمه فى البلاد، حتى إن زعيم الأمة، سعد باشا زغلول، كان يصف هذه اللجنة بلجنة الأشقياء، وكان يصفها آخرون بلجنة الجبناء ولجنة الخونة ولجنة العملاء. وبعد أن انتهى الدستور وصدر بأمر ملكى، أجريت انتخابات عام 1924 ليفوز حزب الوفد باكتساح، وبدأت تظهر مميزات الدستور وثغراته تباعاً حتى أصبح أحد مطالب الحركة الوطنية المصرية هو «الجلاء والدستور» والمقصود بالدستور هو تطبيق دستور 1923 وكان هذا متضمناً فى البيان الأول لثورة 1952.. لماذا؟ الإجابة هى عنوان هذا المقال: المعاصرة حجاب.
وأضرب مثالاً ثالثاً بمعاهدة السلام مع إسرائيل، التى وقف منها الكثيرون موقف الرافض من حيث المبدأ، وليس فقط موقف الناقض أو الناقد. وتمر الأيام والشهور والسنون ونجد قطاعاً من العرب، لا سيما حكامهم، بعد أربعين سنة منها يتساءلون: لماذا لم ننتهز الفرصة ونترجم الانتصار العسكرى إلى مكسب سياسى؟ وهو ما تمت ترجمته فى المبادرة العربية فى بيروت التى طالبت بما كان السادات يسعى إليه. لكنه آنذاك كان يوصف ومن أيدوه بالخونة والعملاء، وبعد عدة عقود أصبح الشرفاء يتمنون الوصول إلى ما كان سيحققه من كانوا يصفونهم بالعملاء.
وسيظل الجدل مستمراً بشأن عشرات الأسئلة التى نطرحها على أنفسنا يومياً. لكن لى طلبان مرتبطان بألا ننسى أن المعاصرة حجاب؛ أولاً، بعض التخوين والاتهامات بالعمالة قائمة على مشاعر إحباط أكثر منها معلومات موثقة. ثانياً، ولنضع لأنفسنا هامش واحد بالمائة أننا ربما نحكم على الأمور حكماً الآن سنغيره فى المستقبل حين تتوافر لنا معلومات جديدة أو ظروف جديدة.
نقلاً عن جريدة "الوطن"