معتز بالله عبد الفتاح
المعارضة قبل الثورة كانت تحتوى على نوعين من البشر ممن كانوا يسبحون فى جزء صغير من نيل السياسة فى الوطن: نوع يرتدى الفانلة الخضراء ونوع يرتدى الفانلة الزرقاء.
وكان الذى يمنع هذين الفريقين من السباحة فى كامل «نيل الوطن» هو «سد» يتحكم فى من الذى يعبر من جانب السد الجنوبى إلى جانب السد الشمالى؛ حيث مؤسسات الدولة وشرايين المجتمع. هذا السد له عيون متوازية ومتلاحقة: تعليما، إعلاما، ثقافة، أوقافا، شرطة، قضاء، جيشا. ويسيطر على هذا السد بعيونه: الحزب الوطنى الديمقراطى.
الفريقان الكبيران: الأخضر والأزرق، بينهما أصلا ما صنع الحداد من خلافات «وجودية»، بمعنى أنها ليست خلافات حول سياسة اقتصادية أو سياسة تعليمية أو سياسة خارجية فقط، وإنما هناك خلاف على أن أحدهما يريد أن يلغى وجود الآخر.
هذا الكلام يعرفه من كان يتابع الحياة السياسية المصرية، وأحيل لكتاب متميز للباحث المرموق الدكتور وحيد عبدالمجيد: «الأزمة المصرية.. مخاطر الاستقطاب الإسلامى- العلمانى» (1993)، وهو نفس ما كان يحذر منه المستشار طارق البشرى تحت عنوان: «الحرب الأهلية الثقافية» طوال الثمانينات والتسعينات. وكان رهان السيد المستبد (الجاثم فوق السد) أن هذين الفريقين بينهما من الصراعات ما يجعلهما يرون فيه بديلا أفضل عن الآخر. وعلى خط الاستقطاب الإسلامى العلمانى وعلى خط الحرب الأهلية الثقافية الذى قد يكون طوله 10 أمتار، يقف على أحد طرفيه الإسلاميون وعلى الطرف الآخر العلمانيون، كان يقف فى مكان ما حول المنتصف: مبارك ورجاله من الحزب الوطنى.
وأما أن «مبارك» تبنى منطق «التزويث» (أى التزوير من أجل التوريث) فقد اعتبر الطرفان هذا «التزويث» إهانة مباشرة لهما، وكانا يمكن أن يقبلا به بشرط الإخراج المناسب الذى يحفظ مساحة من حرية المعارضة وهو ما انتفى تماما بعد انتخابات 2010، لكنهما لم يعرفا كيف يتصرفان؛ لأن ما بينهما من استقطاب أو حرب أهلية ثقافية يجعلهما خائفين من بعضهما البعض أكثر من خوفهما من المورث والوريث. إلى أن حدثت المفاجأة وظهرت طائفة من الشباب الشجعان (نسميهم الفريق الأصفر لأغراض هذا المقال) الذين أخذوا ما حدث فى تونس مأخذ الجد، وقرروا أن يكسروا هذه الحلقة من المخاوف المتبادلة بأن يرفضوا من هم فى السلطة وأن يفرضوا على الجميع رؤية جديدة وجريئة: نتحد ضد العدو الكامن فوق السد متحكما ومسيطرا عليه.
وشجعهم على ذلك أن التف حولهم، ولو جزئيا أو متأخرا، الفريقان الأزرق والأخضر، وتناسى هذان الفريقان الخلاف بينهما لصالح الخلاف الذى بدا أكبر لمدة ثمانية عشر يوما مع النظام الحاكم.
ومع انتهاء الأيام الثمانية عشر، بدأت تظهر على الساحة تباعا مظاهر الاستقطاب الأصلى فى مشاهد متعددة، سواء فى استفتاء 19 مارس 2011 أو ما وراءه من أحداث كبرى أكدت أن هناك طريقين أساسيين فى إدارة شئون مصر. ورغم استغرابى من سوء التقدير الشديد لمعظم الفاعلين السياسيين وعدم اتساق أهدافهم المعلنة مع إجراءاتهم المتبعة، لكن الثورة، حتى الآن، أحدثت وتحدث عدة تغييرات على المشهد المصرى:
أولا: جعلت فى السلطة رئيسا بدأ بمشروعية وشرعية وشعبية شبه كاملة. والمقصود بالمشروعية (legality) هو سلامة الإجراءات القانونية عبر انتخابات اعترفت القوى الأبرز بنزاهتها، بما فى ذلك المنافس الأكبر له، وهو الفريق أحمد شفيق. وجاء بشرعية (legitimacy) القبول الطوعى من قِبل عدد من ممثلى القوى التى وقفت بجواره منذ اتفاق «فيرمونت» وحتى تاريخ الخطبة الشهيرة فى 22 نوفمبر 2012 التى كانت الشرخ الأبرز فى شرعية الرئيس من قِبل معارضيه بعد أن بدا وكأن مصر على أعتاب تخطى الحرب الأهلية الثقافية والاستقطاب الإسلامى - العلمانى مع خطبة الرئيس فى ميدان التحرير؛ حيث احتفل الكثيرون (إسلاميون وغير إسلاميين) بأول رئيس مدنى منتخب بدا وكأنه حريص على أن يجسد المواطنة المصرية وعلى أن يجسر الفجوة بين كل الفرق التى شاركت فى الثورة: الفريق الأخضر والفريق الأزرق والفريق الأصفر.
وكانت الخطبة الشهيرة فى 22 نوفمبر أسوأ تسويق سياسى ممكن لإعلان دستورى، لم يكن له داع أصلا، وهنا بدأت شعبية (popularity) الرئيس فى التراجع بسبب قرارات غير مدروسة وأمام ضربات المعارضين التى ينكر الرئيس تأثيرها بحجة «الجلد السميك».. ولا شك أن تراجع الشعبية على نحو كبير يعنى ضمنا تراجعا مؤقتا فى واحد من مصادر الشرعية (القبول الطوعى)، ويمكن أن تتراجع الشرعية تماما مع المزيد من القرارات غير الشعبية، التى تستند فقط إلى المشروعية (أى اعتقاد من هو فى السلطة أنه جاء بإجراءات سلمية، ولا أهمية لإقناع الناس بالمنطق وراء القرارات).
ثانيا: الرئيس مرسى ومن معه لا يعترفون بتراجع الشعبية ولا تآكل الشرعية ما دام الرئيس قد جاء إلى السلطة بطريقة مشروعة، وعلى هذا هم يظنون أن الرئيس يستطيع أن يتخذ القرارات التى يراها صحيحة حتى إن أضرت بشرعيته.
وهنا تأتى معضلة أن يقرر الرئيس اتخاذ إجراءات تستهدف إعادة هيكلة السد الذى كان يقف على قمته «مبارك» دون أن يكون ذلك باتفاق الفرق الثلاثة، شركاء الثورة: الفريق الأزرق، الفريق الأخضر، الفريق الأصفر. هذا السد كان يتحكم فى مياه الوطن عبر آلياته المشار إليها. وبالتالى أى تعديل فى بنية هذه الآليات: التعليم والإعلام والثقافة والأوقاف والشرطة والقضاء والجيش، إن لم يكن عبر اتفاق وطنى فسيظل مشروعا (بحكم سلامة الإجراءات الشكلية)، لكنه سيظل غير شعبى (أى سيقف منه الكثيرون من المواطنين موقف الريبة أو الرفض)، وبالتالى غير شرعى (أى سينظر إليه الشركاء فى الثورة على أنه أداة لاستبدال «مرسى» بـ«مبارك»، وأن «مرسى» ما هو إلا «محمد مرسى مبارك» الذى جاء عبر عملية انتخابية لا تختلف كثيرا عن الاستفتاء الذى جاء بـ«مبارك» إلى السلطة فى عام 1981.
ثالثا: لا شك عندى أن هناك الكثير مما ينبغى تصحيحه عبر إصلاح التشريعات القائمة، كما أن الكثير من المسئولين الذين أسهموا فى بناء سد الاستبداد وأداروا مؤسسات الفساد ينبغى محاسبتهم وعزلهم واستبدال غيرهم بهم. لكن الرأى العام لا بد أن يطمئن إلى أنه لا يتم استبدال فساد بفساد، ولا استبداد باستبداد.. لكن كيف يحدث هذا؟
أى محاولة منفردة من رئيس الجمهورية ومعه مجلس الشورى الذى يسيطر على أغلبيته لـ«تطهير» مؤسسات الدولة من مؤيدى النظام السابق سينظر إليها على أنها «أخونة» لهذه المؤسسات، ليس بمنطق أن يتم استبدال قاض موال للإخوان بقاض غير موال لهم، وإنما بمنطق أن الإخوان غير راضين عن أداء مؤسسة معينة ويريدون إعادة توجيهها لخدمة أغراضهم تحت شعار معلن أن هذا مطلب ثورى. وهنا سيرفضه الثوار لأنهم لم يكونوا طرفا أصلا فى عملية اتخاذ القرار.
رابعا: الدكتور «مرسى» فى مأزق: لو لم يطهر مؤسسات الدولة ممن أفسدوا واستبدوا سيكون «خائنا» للثورة، ولو قام بتطهير مؤسسات الدولة من هؤلاء سيكون «مؤخونا» للدولة. بين الأخونة والتخوين، وكلاهما خطأ، يوجد الصواب الوحيد فى تقديرى، وهو عدم «التطهير»، وإنما إعمال آليات «التطهر الذاتى». شئنا أم أبينا، هناك مؤسسات لا بد أن تحظى باستقلالية نسبية عن السلطة المنتخبة بحكم أى دستور ديمقراطى. وبغض النظر عن تحفظنا على بعض مواد الدستور الحالى، فإنه يحفظ للسلطة القضائية استقلالها وفقا للكثير من المعايير الدولية. والمطلوب هو أن يتم تبنى آليات واضحة للعدالة الانتقائية بآلياتها المتعارف عليها التى تتضمن المحاسبة السياسية لكل من أسهم فى تزوير انتخابات أو إفساد للحياة السياسية. ونحن فى هذا لسنا بدعا من الدول؛ فهى آليات تم تطبيقها فى عشرات الدول فى آخر ثلاثين عاما. ولدينا فى مصر العديد من الخبراء فى منظمات حقوق الإنسان ممن درسوا هذه الأمور ويجوز لمصر الاستعانة بخبراء من دول أخرى لوضع منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية تضمن أن تكون إجراءات العدالة وطنية وليست مسيسة، تهدف إلى تحقيق أهداف الثورة بعيدا عن المزايدات السياسية والمكايدات الحزبية.
خامسا: لا بد أن يعرف الدكتور «مرسى» أنه يحكم مصر فى أعقاب ثورة شارك فيها جزئيا (الإخوان فريق من الفرق التى شاركت فى الثورة) وحتى الفريق الذى كانوا ينتمون إليه انقسم إلى فرق فرعية، وحتى الفريقان الآخران اللذان شاركا فى الثورة تفرقا إلى أكثر من فريق فرعى. وبالتالى استخدام الآليات التقليدية فى إدارة شئون مصر من قبيل أن الرئيس يأمر والمجتمع يطيع، لن تفلح؛ لأن من ثار على «مبارك» لم يزل ثائرا على مرسى. والفروق بينهما ليست كبيرة من وجهة نظر الفريقين الآخرين.
يا سيادة الرئيس.. أنت بحاجة لإقناع الفرق الأخرى بما تفعل، وإلا فما تفعل لن يوضع فى إطار الصالح العام، وإنما فى إطار الصالح الخاص. يا دكتور «مرسى».. أنت تستخدم الأساليب التقليدية فى قيادة سيارة ترتفع فيها درجة حرارة الموتور إلى ما يقرب من الانفجار فى طريق غير ممهد بالمرة. أنت بحاجة للتفكير كرئيس لكل الفرق، تجمعهم حولك وتبدى رغبة حقيقية فى أن يكونوا معك.
يا سيادة الرئيس.. الحمل أثقل من أن تحمله منفردا ومعك فقط من هم معك الآن. أنت لست بمفكر سياسى، وليست لك رؤية سياسية واضحة أستطيع أن أحدد ملامحها، ولا أعرف من هو المفكر السياسى الذى يلهمك بقراراتك بخلاف الإخوة والرفاق فى الجماعة، لكن كل هؤلاء ليسوا مفكرين سياسيين. أنتم حركيون، وصلتم للسلطة، لكنكم لا تعرفون كيف تديرونها من أجل الصالح العام، حتى إن كانت هذه هى نياتكم كما تقولون، هناك فجوة بين الأهداف المعلنة والنتائج المتحققة.
وبناء عليه، أى قرارات فى اتجاه «التطهير» ينبغى أن تكون فى اتجاه «التطهر» وأى ادعاء بأن عدم التطهير يعنى خيانة الثورة، سيواجَه بمقاومة شديدة باعتباره أخونة للدولة.
وبناء عليه، العدالة الانتقالية لا بد أن تكون ملفا يكلف به المجتمع المدنى (وعلى رأسه منظمات حقوق الإنسان) وتتبناه الدولة، وليس العكس؛ لأن الدولة الآن أصبحت فى أذهان كثيرين هى «دولة مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين» وليست دولة جمهورية مصر العربية، والفضل فى هذا يرجع أساسا للجهود التى قام بها عدد من المنتسبين للجماعة فى إثارة قضايا تلقفها الخائفون والمتربصون لتضعف من شعبية وشرعية الجماعة.
وبناء عليه، كفى عبثا فى ما لا تفهمون فيه.
نقلاً عن جريدة " الوطن".