معتز بالله عبد الفتاح
«كراسى» تعنى «حكم» باللغة اليونانية.
مصر ما قبل ثورة 2011 كانت أوتوقراسى (autocracy) يعنى: حكم استبدادى.
وبعد الثورة ومع ظهور الأحزاب المستندة إلى مرجعية دينية ومع غياب من يوازنها سياسيا وانتخابيا، فستتحول إلى صيغة ما من الثيوقراسى (theocracy)، أى: دولة كهنوتية؛ حيث الطبيعة البشرية تجعل صاحب كل عقيدة دينية - سياسية يسعى لأن يفرضها على غيره ظاناً أن هذا من واجباته وفقا لعقيدته. وهذا ما حدث فى تجارب عدة مثل إيران بعد ثورتها؛ حيث نصت فى دستورها على صلاحيات هائلة لرجال الدين التابعين للنظام فى مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وهما عمليا قابضان على العملية الانتخابية من حيث قبول الترشح انتهاء بإعلان النتيجة وعلى مراقبة العملية التشريعية. وهذا ما فعله جون كالفن، أحد اثنين أسسا لحركة الإصلاح الدينى البروتستانتية حين حكم جنيف وحولها إلى نسخة بروتستانتية من حكم طالبان فى أفغانستان، وهذا ما فعلته طالبان أيضا. والاعتماد على النوايا الطيبة للأتقياء صعب؛ لأن هؤلاء أصبحوا أقلية مترفعة عن المناصب السياسية. وهذا كله وفقا لقانون من قوانين «الفيزياء» السياسية التى صاغها اللورد أكتون: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة».
ولا نريد لبلدنا أن تتحول إلى أوكلوقراسى (Ochlocracy) أى: حكم الدهماء الرافض للقانون القائم على الفوضى والبلطجة واستخدام العنف فى مواجهة مواطنين آخرين أو فى مواجهة مؤسسات الدولة. وعادة ما يكون منطق الفوضى هذا ليس هدف أى طرف وطنى، وإنما هو هدف لأطراف أجنبية ونتيجة غير مقصودة لرغبة كل طرف فى إقامة نظام الحكم الذى يريد. والحقيقة أن هذه هى معضلة النخب العربية بصفة عامة، وهى أنها ليست ديمقراطية وإنما هى ديماجوجية، يعنى أنها تؤمن بأيديولوجيتها أكثر من إيمانها بالديمقراطية؛ تؤمن بحق النادى الذى تشجعه فى الفوز أكثر من إيمانها باحترام قواعد اللعبة وما تحمله من مبادئ العدل والإنصاف. الجماهير بالنسبة لها إما مفعول به وإما مفعول لأجله وإما مجرور بالعافية وعلامة جرها الطاعة للنخبة، وإلا تصفها النخبة بأنها دهماء.
فى هذا المناخ شديد الصعوبة الذى تحكمه مخاوف الأوتوقراسى والثيوقراسى والأوكلوقراسى، لا مخرج إلا بديل واحد، هو الـ«democracy»، يعنى حكم الشعب من خلال أطر مؤسسية وقانونية، وفقاً للقواعد المستقرة فى هذا الشأن من تداول سلمى للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة تعددية دورية تنافسية عبر اقتراع سرى مباشر وفقا لقانون عادل تحت إشراف جهات محايدة حزبيا، وتعدد فى مراكز صنع القرار من خلال معارضة قوية قادرة على أن تكشف أخطاء السلطة وتقدم البدائل فى السياسات والأشخاص، وضمان الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين بدءا بأضعفهم.
أزعم أن الدكتور مرسى، دون تدبير منه، اخترع خلطة يمكن تسميتها «مرسى كراسى» وهى خلطة من الأربعة نظم السابقة؛ حيث يتبنى أحيانا قرارات من مخلفات الاستبداد مثل تعيينه للنائب العام، وفقا لآلية نعتبرها جميعا غير ديمقراطية، ونحن نعلم أن الصورة الذهنية عن المنصب العام تؤثر فى توقعات الناس من حاملها وممن عينه. ثم دخل الدكتور مرسى ومعه حزبه وحلفاؤه فى معركة مع السلطة القضائية بين التشكيك والاتهام ثم التمسك بمناقشة مشروع قانون لو كانوا ذوى بصيرة لتجنبوه تماما فى هذه المرحلة وركزوا فى ما هو أهم وهو استعادة رأسمالهم الثورى، وعلاج مشاكل البلاد الاقتصادية.
ثم هو أخذ شيئا يسيرا من «الثيوقراسى» بأن جعل حلفاءه عمليا هم فقط من يؤيدونه من التيار الإسلامى، باستثناء حزب النور، وحوّل الأمر كما لو أنها معركة التيار الإسلامى فى مواجهة التيار العلمانى رغما عن أنه حين وصل إلى منصبه كان معه مؤيدون من كل التيارات.
ثم أخذ شيئا كثيرا من «الأوكلوقراسى» حين جعل الشارع يحكم المؤسسات وليس العكس، وكان أسوأها على الإطلاق خطاب الاتحادية فى 22 نوفمبر الذى خاطب فيه الأهل والعشيرة، بما قسم البلد، أكثر من الإعلان الدستورى ذاته. وعليه أصبحت محاصرة المحاكم وقطع الطرق منطق حياة.
يا دكتور مرسى، عد إلى استحقاقات «فيرمونت».. انت ماشى فى سكة غلط. أعلم أنها عودة ثمنها غالٍ، لكن تكلفتها أقل مما أنت تسير فيه.
نقلاً عن جريدة "الوطن" .