مصر اليوم
البعض بالفعل متسقون مع أحزابهم وربما كذلك مع أيديولوجيتهم أياً كان لون «الفانلة» الملبوسة وما عليها من لافتات، ولكنهم فى سبيل ذلك يكونون غير متسقين مع المبادئ التى ينبغى أن تكون أسمى من «الفانلة».
تعالوا نأخذ عدة أمثلة.
لو كان المبدأ هو احترام حقوق الإنسان، إذن هو احترام لكل إنسان، ولكن ما معنى أن أحترم حقوق الإنسان الذى أحبه والذى يوافقنى وأنتهك حقوق الإنسان الذى أكرهه والذى يخالفنى فى الرأى. ما معنى أننى دفاعاً عن الإنسان الذى ينتمى إلى تيارى الفكرى أقوم بقتل أو إلقاء المولوتوف على «إنسان» آخر يرتدى زى الشرطة. أهى حقوق الإنسان الذى يقف على الجانب الخاص بى من الطريق أما الإنسان على الطرف الآخر فلا حق له؟
طبعاً من السهل الاحتجاج بأنهما لا يستويان، ولا أعرف من أين نأتى نحن المصريين بحجج تبرر مقاومة عنف الشرطة، وهو قطعاً مرفوض، بعنف مضاد يكون القتل فيه مبرراً من الجانبين، ونظل ندعى أننا نفعل ذلك للدفاع عن حقوق الإنسان؟ هل هذه هى تقاليد الاحتجاج السلمى والعصيان المدنى؟ على أى مذهب؟ ووفقاً لأى منظر؟ هل هى تقاليد غاندى ومارتن لوثر كنج ودزموند توتو؟
ونجد هذه المعضلة أيضاً حين ينتمى أحدنا لحزب ما ويقرر أن يتبنى سياسات وقيم هذا الحزب وأن يدافع عن ممارساته أيا ما كانت سواء فى صالح الوطن أو ضد صالح الوطن، هل هو بهذا يتبنى موقفاً أخلاقياً أم يتبنى موقفاً سياسياً، وهل من الممكن الجمع بينهما؟
هناك مقولة أمريكية عن السياسيين وعلاقتهم بالأحزاب تلخص المعضلة السابقة: «هناك أشخاص كثيرون محترمون فى الحزبين الكبيرين، ولكن الحزبين غير محترمين»، لماذا؟
الحزب ماكينة سياسية تريد أن تكسب الانتخابات وتصل إلى السلطة، هذه هى وظيفتها الأصلية، ولكنها فى سبيل ذلك ربما تسعى لخسارة الفريق الآخر بتكلفة أعلى للوطن. السياسيون المحترمون، وهم عادة يكونون القادة الذين يذكرهم التاريخ بالخير، يضعون المصلحة العامة فوق المصلحة الجزئية، يضعون المبدأ العام فوق الحسابات الضيقة.
وحتى لا يكون الكلام مثالياً بما يجافى الواقع، فإن السياسيين أحياناً يسلكون سياسات خاطئة فى وسائلها لتحقيق أهداف عظمى فى قيمتها.
هل شاهدتم فيلم «لينكولن»؟ يحكى الفيلم عن كافة الأساليب غير الأخلاقية وغير القانونية التى استخدمها الرئيس الأمريكى ومساعدوه حتى يتم التصويت على التعديل الدستورى الذى أفضى إلى تجريم تجارة وامتلاك الرقيق فى الولايات المتحدة. ومن ضمن هذه الأساليب كانت الرشوة السياسية والكذب بل والحرب الأهلية نفسها، وهى الحرب التى استمرت أربع سنوات ونصف السنة، مات خلالها 625 ألف أمريكى، وكان واحداً من كل خمسة أمريكيين إما مصاباً أو قتيلاً فى هذه الحرب. كان هدف الرجل أخلاقياً وهو تحرير العبيد، وسياسياً وهو حفظ الاتحاد الأمريكى من الانهيار.
هذا الرجل خرج على بعض تقاليد حزبه، بل وقاومه بعض أنصاره لكن هنا تتجلى معنى القيادة. معنى القيادة أن تكون فى مصلحة البلد وليس فى مصلحة الحزب، ولو حدث تناقض، فمصلحة البلد أهم وأكبر.
سؤال: ماذا لو تعارض المبدأ مع مصلحة الحزب الذى تنتمى إليه؟
مثلاً المبدأ يقول ألا تستخدم مرافق الدولة لأغراض حزبية. وماذا لو كان بإمكانك استغلال مرافق الدولة من أجل اجتماع حزبى أو الدعاية لحزب؟ بأيهما ستلتزم؟ إما أن تلتزم بالمبدأ ويطبق على جميع الأحزاب بنفس الروح وبنفس الإجراءات أو أن نعيش فى حالة من الانتهازية السياسية التى نكون فيها متسقين مع أحزابنا وتياراتنا الفكرية ولسنا متسقين فيها مع مبادئنا.
وبالمناسبة لا توجد عندى أى مشكلة فى أن تستخدم المؤسسات العامة للدولة فى أنشطة حزبية شريطة أن يكون ذلك متاحاً للجميع.
المزعج فى مصر أن بعض من يصفون غيرهم بأنهم متلونون أو منافقون حقيقة هم لا يرون أن هذه الصفات تنطبق عليهم هم أكثر من غيرهم. هم يرون أنفسهم متسقين مع «الفانلة» التى يرتدونها ولكنهم متلونون ومنافقون بالمعنى الأخلاقى الأوسع، وطبعاً لكل قاعدة استثناء.
وهذا هو جوهر قول الشيخ الشعراوى: فدوام الاختلاف من الاعتساف، ودوام الاتفاق من النفاق..
لو كانوا يعلمون.
نقلاً عن جريدة "الوطن"