مصر اليوم
فى هذه الأيام المهببة، يكون الإنسان أكثر حيرة من المعتاد؛ لأنه مطالب أن يقول كلمة الحق. وكيف يقول الحق وهو تغيب عنه الحقائق. قول الحق يتطلب أن تعرف الحقائق. ومعظم من أعرف، سواء عبر الاتصال المباشر أو من وسائل التواصل الاجتماعى، يعيشون فى حالة من «ألوظة» المعلومات لتتفق مع تحيزاتهم الشخصية، ولا أقول الأيديولوجية. نحن لدينا غل شخصى وغيظ فردى ضد الآخرين؛ لأن الخلاف الأيديولوجى يتطلب مناقشة للأفكار والبرامج والسياسات والاستفادة من بعضها عبر تلاقى الأفكار. الكثيرون لا يهتمون بالحقائق، المهم كيف يمكن الاستفادة من الحقائق أو اختلاق الحقائق التى تخدم مصلحته.
فى هذه الأجواء، لا يتصور من يستمع أو يقرأ كلامك أنك تقول كلمة حق لله والوطن، وإنما أكيد أنت عميل أو صاحب أجندة شخصية أو لك غرض ما غير معلن.
ومحاولة أن تعرف الحقائق من الإعلام المصرى أو العربى أو الأجنبى لا ينفع كثيراً الآن؛ لأن الكثير منه يخلط الحق بالباطل ويذيع الجزء من شريط الفيديو أو الصور التى تخدم توجهه.
هل أخطأ مرسى؟ يقيناً فعل. ومن يقرأ هذا العمود بانتظام يرى بوضوح دعوتى للرجل أن يجنبنا حربا أهلية من شهور، ولكنه استمرأ دور الضحية التى يتآمرون عليها ونسى أن الشرعية، كما يقول دارسو العلوم السياسية، كالحرارة، كما يقول دارسو الفيزياء، تكتسب وتفقد، ترتفع وتنخفض.
وكل الدماء الزكية التى تسيل الآن فى مصر، هو مسئول عن جزء منها بحكم مسئوليته؛ لأنه كان ينبغى أن ينصت أكثر، ولكنه لم يفعل.
ولكن هناك مسئولية كبيرة كذلك على من رفع معايير الحكم على الأشياء فى مصر خلال الفترة الماضية بحيث جعلها صعبة الآن. كان الكلام خلال الفترة الماضية عن حتمية أن تكون الحكومة محايدة استعداداً للانتخابات، وتطبيقاً لنفس المبدأ اعترض حزب النور على الدكتور البرادعى، وربما كذلك على الدكتور زياد بهاء الدين، مع يقينى بأنهما جديران بالمنصب. ولكن من وضع المعيار هو الدكتور البرادعى والدكتور زياد وأنصارهما. والآن هما مطالبان بالالتزام به.
كان هناك حديث عن أنه «يسقط يسقط كل رئيس، طول ما الدم المصرى رخيص». وهو كلام حق وصدق. ولكن هل نتوقع أنه مع أى هجوم تقوم به الشرطة أو الجيش أو بلطجية على متظاهرين سلميين أن نطبق نفس المبدأ ويسقط الرئيس المؤقت؟
وهى نفس المعضلة التى ستواجه اللجنة التى ستقوم على تعديل الدستور، وكنت أتمنى ألا تتقيد بدستور 2012 أصلاً وأن تلبى طموحاتنا جميعاً فى دستور «يليق بمصر» كما قال المعارضون، وليس فقط تعديل ما اعترضوا عليه بشدة واعتبروه دستوراً مشوهاً ومعيباً رغماً عن أنه تم بمباركة نفس مؤسسات الدولة التى باركت نفس التدخل العسكرى الأخير، باستثناء ممثلى الكنيسة.
هناك مشكلة كبيرة فى مصر وهى أن الكل يريد أن يحكم، وحين لا يستطيع، يقرر أن يناضل فنكون أمام من يحكم ومن يناضل ضده لإفشاله، وليس من يسعى لأن يعارضه وصولاً إلى السلطة.
أجدنى فى ظل هذه الأزمة راغباً فى تكرار دعوتى للتيار المحافظ دينياً: اتركوا السياسة وركزوا فى الأخلاق. كونوا قدوة للناس فى العمل الإنسانى والخيرى وساعدوهم على أن يكونوا مسلمين بحق، مصريين بحق. لا أرى خيراً كثيراً فى الاشتغال بالعمل السياسى. انقسامكم وتنافسكم على المناصب أصبح عليكم وليس لكم.
إن رؤيتنا لأى قضية تتوقف على الموقع الذى ننظر إلى المشكلة منه. الثائر فى السلطة، غير الثائر فى الشارع، عضو البرلمان فى الأقلية، غير عضو البرلمان فى الأغلبية. ولكن المصلحة الوطنية أن ندرك أن أياً منا ليس قادراً على أن يحيط بكل المواقع وأن يعبر عنها. وأن كل شخصية عامة ذات وزن لها من الأعداء على الأقل ضعف ما لها من الأنصار.
لذا أدعو عقلاء هذا الوطن من رموز ثقافية ودينية وسياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أن تتنادى إلى مبادرة وطنية لحقن الدماء ووقف اندفاع الوطن من قمة الجبل إلى القاع. إن فوضى القاع تعكس فوضى القمة، ومحصلة الفوضى ضياع.