معتز بالله عبد الفتاح
من العراق الذى يقف على أعتاب حرب أهلية، إلى سوريا التى وقعت فى الحرب الأهلية بالفعل، إلى ليبيا المهددة فى وحدتها، إلى تونس التى تواجه خطر الخروج عن المسار الديمقراطى المرسوم، إلى الأردن والكويت اللتين تشهدان انتخابات تقاطعها قوى المعارضة الرئيسية فيهما، إلى الجزائر التى ستشهد غيابا لقيادتها التاريخية من على مسرح الأحداث، إلى السودان الذى تمزق، إلى اليمن الذى تعثر، إلى الصومال الذى انتهى، إلى فلسطين التى ضاعت، إلى مصر التى تواجه معركة تكسير عظام لفشل قياداتها المنتخبة والمعارضة فى أن تقدم نموذجا للديمقراطية التشاركية والاستيعابية. والحقيقة أن كل هذا لا يمكن فهمه إلا فى ضوء أن المنطقة العربية تواجه أسئلة أعقد كثيراً من أسئلة المشاركة السياسية والرقابة بين المؤسسات والتداول السلمى للسلطة التى تحلها الديمقراطية. العرب يواجهون مشكلة الدولة وليس فقط مشكلة الديمقراطية.
مجتمعاتنا مليئة بالتناقضات والصراعات، ومحاولات التحول الديمقراطى تفتح آفاقا واسعة لها كى تخرج إلى العلن وكى تعبر عن نفسها. هذه الصراعات متنوعة وشديدة، والديمقراطية بآلياتها المختلفة ستعجز فى علاجها ما لم تكن هناك إرادة حقيقية عند النخب، فى أن تقدم رؤية متكاملة بشأن علاجها. سأركز على مصر، وسأبدأ بالصراعات الخمسة التى أشار إليها صديقى إسلام حجازى، وأضيف إليها خمسة أخرى ليكون المجموع عشرة صراعات ستعصف بأى تجربة ديمقراطية تعتمد على أى ديمقراطية إجرائية شكلية تفترض فى من يحكم أنه حصل على الأغلبية وبالتالى له الحق فى أن يحدد قواعد اللعبة منفردا.
هناك أولا صراع علمانى - إسلامى على هوية المجتمعات العربية وعلى رأسها مصر. وهو الصراع الأبرز على الساحة الآن بين التيار الذى سأطلق عليه اسم «التيار الإسلاماسى» أى المعبر عن «الإسلام السياسى»، سواء صدقا أو ادعاء وبين القوى العلمانية التى ترى أن من يتحدثون باسم الدين يتاجرون به أكثر من تعلمهم منه والتزامهم به.
الصراع الثانى هو الصراع بين الأغنياء والفقراء، وهو الذى تجسده عبارات «العيش والعدالة الاجتماعية». معدل الفقر فى منطقتنا العربية، بما فيها مصر، عالٍ إلا فى دول الخليج، وفقر الفقراء فى مخيلة البعض يرتبط بثراء الأثرياء فقط وأنه لو تمت إعادة توزيع الدخل فى مصر لأصبح الفقراء غير فقراء. الحقيقة: هذا غير صحيح. معدل الفقر فى مصر كبير ويتزايد لأسباب كثيرة من ضمنها سياسات خاطئة من الدولة لفترة طويلة، ومنها تداخل السلطة مع رأس المال، ومنها معدلات زيادة سكانية عند الفئات الأكثر فقرا والأقل تعلما، ما يزيد الأمر سوءا لهؤلاء. ومن يدرس ظاهرة الفقر فى مصر أكاديمياً يكتشف أن المسألة لن تُحل بقرار حكومى، سواء ارتبط بإعادة توزيع الدخل أو تغيير نظام الضرائب، أو وضع حدين أقصى وأدنى للأجور. المسألة بحاجة لاستراتيجية قومية تدعم النمو الاقتصادى وتدعم العدالة الاجتماعية كذلك. مشكلة الاعتصامات والإضرابات وقطع الطرق المرتبطة بنقص الخدمات وضعف المرتبات هى المؤشرات الأهم على أن قضية العدالة الاجتماعية لم تزل فى قمة أولويات الصراع السياسى فى مصر.
ثالثا: الصراع المدنى - العسكرى الذى لم يزل قائما وسيستمر معنا طويلا. القوات المسلحة دخلت حلبة الصراع السياسى مرة أخرى وستظل معنا لفترة طويلة نسبيا، وفشل النخب غير العسكرية فى علاج مشاكلها السياسية يعطى رسالة لملايين الشعب أن السياسى العسكرى على عيوبه أفضل من السياسى المدنى على مميزاته.
رابعا: الصراع بين البيروقراطية والديمقراطية، وهو صراع تاريخى ولم يزل مستمرا فى كل دول العالم بين أولئك الذين يمثلون لوائح الدولة وقيودها وثوابتها الراسخة، وبين المنتخبين جماهيريا والمساءَلين سياسيا أمام الهيئة الناخبة والرأى العام من التنفيذيين ونواب البرلمان. ومن يرجع لأهم ما كتب لى كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة، عن هذا الأمر، يكتشف أن سر نجاحه هو أنه أخضع البيروقراطية للسلطة السياسية الديمقراطية وأخضع السلطة السياسية الديمقراطية لمعايير الكفاءة البيروقراطية فى تجربة لا تتكرر إلا فى ظل قيادات استثنائية تماما. وكما جاء فى هذا المكان من قبل أن البيروقراطية ستقتل التنمية كما أن السياسة ستدمر الاقتصاد إن لم تكن لدينا قيادة واعية بهذا الأمر، والمعضلة أننا لم تكن لدينا قيادة أصلا. وسيستمر هذا الصراع لا محالة حتى تستكمل المؤسسات الديمقراطية وتأتى لنا بقيادات على قدر المسئولية.
خامسا: الصراع الجيلى بين القديم والحديث، بين الشباب الذى يخرج ليتمرد لأنه وجد أن الكبار لا يعرفون كيف يديرون البلاد ولا يحققون النهضة التى وعدوا بها ولا يحترمون أرواح الشهداء وتضحياتهم ودخلوا فى صراعات بينية تضيع على البلاد طاقتها وقدرتها على الانطلاق. أزعم أن هناك خطا زمنيا يمكن تصوره بين أولئك «الكبار» وأولئك «الصغار»، ولكن المعضلة أن الكبار يصدرون للصغار مشاكلهم وينتجون تلاميذ لهم يسيرون على نهجهم. والأمل هو إنقاذ هؤلاء الجدد من أولئك القدامى بأن يدرك الأصغر سنا القوى الكامنة فيهم وأن يستفيدوا من آراء وتوجهات الأكبر سنا دون أن يكونوا أسرى لصراعاتهم وخلفياتهم وذواتهم المتضخمة.
الثورات العربية فتحت كذلك بابا واسعا للصراع على مستويات أخرى، ولم نكن جاهزين للتعامل معها، فانفجرت فينا.
سادسا: الصراع النوعى بين الذكور والإناث. هناك نزعة لا أريد أن أبالغ فيها بين الذكور للتقليل من شأن الإناث واعتبارهن كائنات أقل فى القدرات الذهنية من الذكور.
سابعا: الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، التى تطل برأسها أحيانا ولا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال بصددها. هناك مشكلة حقيقية عند بعض فئات المجتمع بالذات فى المناطق العشوائية والريفية حول علاقة المسيحيين والمسلمين. وكلمة الصراع هنا ليس معناها العنف، فهذا أكثر أشكال الصراع بروزا، لكن الخطاب الطائفى مقلق ويتناقض مع ما يقتضيه دين كل منهم مع الآخر وفقا لآيات المودة والبر (المذكورة نصاً فى القرآن) والمحبة والتسامح (المذكورة نصاً فى الإنجيل)، لنجد من يحرص على أن يتصرف كل طرف وفقا لمنطق التكفير والإقصاء.
ثامنا: صراع بين المركز والأطراف على الموارد المحدودة وعلى رأسها موارد الأمن والتنمية. القاهرة ومعها عدد من المحافظات الحضرية وكأنها تحلق منفردة بعيدا عن مشاكل بقية المحافظات التى تعانى أكثر وكأنها ليست جزءا من مصر. كيف سنتعامل مع هذه المعضلة؟
تاسعا: صراع النهضة والتخلف، وهو صراع بين فكر وقيم التعليم والتطور والتكنولوجيا والبناء، وفكر وقيم الجهل والأمية والتخلف والهدم. هذه مسألة ثقافية تتطلب أن تكون مؤسسات صناعة الثقافة من تعليم وإعلام ومؤسسات دينية تتبنى خطابا متكاملا محفزا لبناء الإنسان المصرى القادر على مواجهة تحديات الغد، وليس إعادة إنتاج تخلفنا.
عاشرا: صراع الاستباحة والريادة الإقليمية.. مصر الآن فى أضعف حالاتها؛ لأنها معتمدة على غيرها إن شاءوا أعطوها وإن شاءوا منعوها. إحكام غلق الحدود ومكافحة التهريب وترميم العلاقات الخارجية على أسس متوازنة ليس طرفا.
نقطة البداية فى علاج أى فشل أن نعترف به، وإلا سنستمر فى الفشل. أعتقد أنه قد حان الوقت لأن نقول لأنفسنا: لقد فشلنا؛ لأن التحديات أكبر ونحن أصغر وأضعف منها، وأن نكسر الغطرسة المسيطرة علينا. يمكن نقدر نحاول مرة أخرى.
نقلاً عن جريدة " الوطن"