معتز بالله عبد الفتاح
تذكرت مقالا كتبه الأستاذ أحمد سمير من فترة بعنوان: «محمد بديع.. سنسجنك».. آنذاك لم أكن أعرف «أحمد»، وحين تعرفت عليه وعلى عدد آخر من الشباب الذين قضوا بعضا من حياتهم داخل جماعة الإخوان المسلمين ثم خرجوا منها أو تعرفوا عليها عن قرب لسبب أو لآخر، وجدتنى ألاحظ عدة خصائص تجمعهم.
أولا: هم موهوبون بحق فى تخصصاتهم، سواء فى الكتابة أو الإخراج أو إدارة الإعمال.
ثانيا: هم نشطون ويريدون أن يكونوا جزءا من معادلة إصلاح المجتمع والدولة.
ثالثا: الجماعة ما كان لها أن تستوعبهم فى ظل بنيتها التى كانت قائمة. هم «موتور» قوى على «شاسيه» مهترئ. وكان الحفاظ على الشاسيه (أى التنظيم) يقتضى إما إبطاء هؤلاء وإما طردهم منها. ومن رفض منهم خرج ولم يعد.
رابعا: عدم قدرة الجماعة على إدارة ملفات الدولة المصرية يرتبط بشكل مباشر بخروج هذه الطاقات الشابة منها، ولو كانوا موجودين فيها، لكانت الجماعة أقدر على الوجود بين الطبقة الوسطى المصرية وأنجح فى التفاعل مع ملفات العمل الحكومى.
خامسا: هؤلاء فى حيرة الآن؛ لأنهم يرون تلك «اللحظة الأتاتوركية» التى تعيشها مصر والتى يتم فيها استئصال الجماعة. هم ذهنيا يعلمون أن التنظيم ما كان له أن يستمر بنفس أشخاصه، لكنهم يعرفون أصدقاء وأقارب لهم ممن تظاهروا واعتصموا وبعضهم لاقى ربه. وهم على فراقهم لمحزونون. وتعكس كلماتهم وتكرار استخدام كلمة «لكن» للاستدراك أن الخط المستقيم فى التفكير لا يعبر عما يجيش فى صدورهم وعقولهم.
صديقى البراء أشرف حكاية أخرى تستحق التأمل. هو يذكرنى بمقولة لفيلسوف ماركسى إيطالى حين اجتمع بهم رئيس الوزراء فى الخمسينات ليقول لهم: ساعدونى على حل مشاكل إيطاليا. فرد عليه الفيلسوف الماركسى: «ليست وظيفة المثقف حل المشاكل، هذه وظيفة السياسى. أما وظيفة المثقف فهى صنع المشاكل».
«البراء» شاب موهوب يعمل فى مجال الإخراج والإنتاج الفنى، عاش فترة من حياته عضوا فى جماعة الإخوان. يقول صراحة وبلا مواربة فى السر والعلن: «الجماعة لا بد أن تنتهى لأنها مضرة بمصر، ولولا مثل هذه الجماعة لكانت هناك مواهب كثيرة وقدرات هائلة أكبر فى مصر يمكن أن تنطلق». وليعذرنى على عدم دقة الاقتباس، فأنا أقتبس من الذاكرة. وهو يلخص فى هذه الكلمات ما قاله كثيرون من شباب الإخوان السابقين. لكن المشكلة كما يراها «البراء» الآن هى أن عمليات القمع هذه هى قبلة حياة للإخوان المسلمين على المدى الأطول.
نفس الكلام سمعته من آخرين موهوبين ومتعلمين، لكن لديهم تحفظات كثيرة على الطريقة التى كانت تدار بها جماعة الإخوان، وتحديدا فكرة «التنظيم الحديدى» و«التراتبية الجامدة» و«تنفيذ الأوامر تحت زعم أن الأعلى يعرف أكثر» وهى كلها آليات تطرد المتمرد فكريا والمبدع فلسفيا والمستقل نظريا.
مرت علىّ فترة بعد ثورة 25 يناير، كنت تقريبا ألتقى أسبوعيا شبابا ناجحين فى مجالاتهم، ثم يذكرون صراحة أنهم كانوا فى يوم من الأيام فى الجماعة ثم تركوها. وبعضهم يحكى أسباب تركهم لها بغصّة. ما لفت انتباهى لم يكن الاعتراض على جمود التنظيم فقط، لكن كذلك سوء استغلال «الإسلام» أحيانا. وهو ما جعلنى ذات مرة أقول إن المتمسكين بالتنظيم على حساب مقاصد الإسلام هم «إخوان» أكثر منهم «مسلمون». وحين سألنى أحد قياداتهم عن السبب قلت: لأنكم إذا حدث تعارض بين تعاليم الإسلام ومصلحة المسلمين من ناحية وتقاليد «الجماعة» ومصلحة أعضائها من ناحية أخرى فأنتم تغلبون أو تخترعون الاجتهاد الفقهى الذى يغلب مصلحة «الجماعة».
وحين أطالع آراء زملاء أكثر تخصصا منى أكاديميا فى ملف الجماعة مثل الفاضلين: عمار على حسن وخليل العنانى بعد أن غيب الموت المرحوم حسام تمام، أجد فى كتاباتهم ما يؤكد نفس الفكرة التى لخصها «خليل» فى عنوان كتابه المتميز «الإخوان المسلمون.. شيخوخة تصارع الزمن».
أتمنى على شباب الإخوان السابقين أن يخرجوا أكثر للنور ليوضحوا لماذا قرروا الخروج منها؛ لأن هناك من لم يزل مصراً على «أخونة» مصر ولا يدركون أن الصواب هو «تمصير» الإخوان إن أرادوا أن يكونوا بحق «دعاة لا قضاة».
صلوا من أجل مصر."
الوطن"