معتز بالله عبد الفتاح
وجودى فى الخارج لفترة طويلة، بقدر ما ساعدنى على مراقبة مجتمعات أخرى، أفقدتنى التواصل الكافى مع بعض الأسماء المهمة فى حياتنا الثقافية، لذا كنت أجتهد فى زياراتى إلى مصر أن أتواصل مع بعض الأسماء المؤثرة فى المجال العام، وكان أحد هؤلاء هو المرحوم الدكتور المسيرى. التقيت الرجل عدة مرات وكنت أكتب وراءه بعضاً مما يقول وأعتقد أنه كان يرحب بأسئلتى ونقاشى معه.
فى أحد اللقاءات، تطرق الحديث إلى أحد علماء اللغويات المشهورين، رودلف كارناب، الذى أوضح أن البشر يستخدمون اللغة عادة بإحدى طريقتين: الأولى تعبيرية انفعالية قائمة على الرأى والذات، وأخرى وصفية تصويرية تقريرية، وتكون اللغة تعبيرية Expressive حين تريد أن تقول إنها منصرفة إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، وبالتالى يستحيل على سواه أن يراجعه فيه، لأنه شعور ذاتى خاص به، مثل عبارة أن شيئاً ما جميل وممتع ورائع؛ ويلاحظ أن وصف هذا الشىء بأنه جميع وممتع ورائع جعل شعور الشخص به موضع اهتمامنا وليست طبيعة هذا الشىء، فنحن لم نعرف ما الشىء الرائع! هل هى لحوم أم خضراوات أم أسماك؟
وهذا حال أغلب المصريين، يحكون لك عن مشاعرهم، حباً أو كراهية، عن شىء أو شخص أو حدث قبل أن يصفوا لك بموضوعية أصل الحكاية؛ فالرأى عندهم سابق على المعلومة.
أما العبارات التصويرية الوصفية العلمية، فهى التعامل مع الشىء بذاتها Descriptive، وليس بحكم انفعالى به ورأى فيه، أى بلغة أهل الاختصاص من دارسى الفلسفة: «وصف شىء خارج عن ذات القائل بغض النظر عن انفعال القارئ به».
كان نتيجة حوارى مع الدكتور المسيرى، الله يرحمه، أننا مجتمع «منفعل» أكثر مما ينبغى: أى مجتمع يهتم بسؤال «ما رأيك» فى كذا قبل أن نعرف تحديداً ما هو هذا الـ«كذا» الذى نحن بصدد نقاشه.
وحكى لى هو قصة عن أنه فى إحدى الندوات، قال كلاماً لم يعجب أحد الحاضرين، فقال له: «كيف تقول كذا وكذا، وأنت مفكر إسلامى؟».
فكان رد الدكتور المسيرى: «من الذى قال إننى مفكر إسلامى؟ أنا عمرى ما وصفت نفسى بهذا الوصف لا قولاً ولا كتابة، وربما يكون من يبحثون عن «مفكرين إسلاميين» ظنوا أن انتقادى للغرب وللتحيزات الفلسفية فى بنيته الثقافية والسياسية جعلتهم يقولون إذن هو مفكر إسلامى بالإكراه».
أظن أن هذه واحدة من آفاتنا التى تؤدى بنا إلى خسائر كبيرة، كبيرة جداً، تعالوا مثلاً نناقش قضية أتذكرها جيداً أيام وضع قانون انتخابات مجلس الشعب فى 2011 حيث كانت بعض النخبة السياسية تقول إن الأفضل لمصر هو «القوائم النسبية للأحزاب والمستقلين» تماماً بلا أى نسبة للفردى، وتكررت العبارة بشكل ببغائى وكأن الكل أصبح خبيراً فى النظم الانتخابية، دون التعرف على ماهيتها والنظر لعيوبها، والأطرف أن «الانفعال» والدفاع عن الانتخابات بالقوائم النسبية 100 بالمائة كان على الفاضى، وكان كاتب هذا السطور ومعه آخرون يقول يا ناس هذه مسألة فى منتهى التعقيد لأن الأحزاب نفسها غير جاهزة، ولا يعرف بعضها بعضاً، ومعظمها بلا مقار أو برامج حزبية أو التزام حزبى، ولو جعلتم النظام كله بالقائمة النسبية، فما مصلحة الشخص الذى سيكون فى ذيل إحدى القوائم أن يظل فى القاع بلا أى فرصة للفوز على الإطلاق؟ قطعاً سينتهى به الحال، إن كان جاداً، فى أن يسعى لعمل قائمة مستقلة به يكون على قمتها ويملأ بقية الأسماء فى القائمة بأقاربه وأصدقائه، المهم أن يكتمل العدد ويكون هو رأس القائمة، والمشكلة فى هذه الحالة هو أننا سنكون أمام عدد مهول من القوائم المستقلة التى تشكلت وكأنها على أساس فردى، بما سيضعف الأحزاب يقيناً، فتكون الإجراءات المتخذة غير متسقة، بل متناقضة تماماً، مع هدف تقوية الأحزاب.
وأمام عينى وبعد أن تم إقرار نظام القائمة بنسبة الثلثين والفردى بنسبة الثلث، اكتشفت بعض قيادات الأحزاب أنها كررت المقولات التى تفضل «القوائم النسبية» انفعالاً، دون أن تعرف ما هى؛ أى «انفعلت قبل أن تعرف» و«حكمت قبل أن تتصور».
ولا يزال مجتمعنا منفعلاً متفاعلاً فاعلاً مفعولاً به دون أن يعرف.
نقلاً عن "الوطن"