معتز بالله عبد الفتاح
صلوا على رسول الله، وكل من له نبى يصلى عليه. نركز مع بعض شوية، علشان الرغى كتير والمضمون ضعيف.
من حقائق الثورات ثلاثة أمور:
أولا: ألا أحد يؤيد نظاما تقوم ضده «انتفاضة شعبية» ويقبل أن يطلق عليها «ثورة»، وإنما هو دائما يشير إلى أنها كانت ناتجة عن مؤامرات وأنها «انقلاب» أو «سطو مسلح» أو «سرقة بالإكراه» للدولة. أنصار الملك فاروق ظلوا حتى وفاة الرئيس عبدالناصر يصفون ما حدث بأنه انقلاب «البكباشى عبدالناصر» وبعضهم كان يطالب بعودة الملكية إلى مصر. وأنصار الرئيس مبارك ظلوا رافضين لإطلاق كلمة «ثورة» على ما حدث فى 25 يناير وكانوا يعتبرون أن «طنطاوى» خان الأمانة. وكان جورج الثالث، ملك إنجلترا، يصف جورج واشنطن ورفاقه بأنهم «خونة مارقون يقودون حربا أهلية انفصالية ضد المملكة البريطانية العظمى بدعم من الفرنسيين والإسبان». إذن بعد الانتفاضة الشعبية سيكون هناك من يسميها «ثورة» وهناك من سيسميها «انقلابا». عادى خالص وبتحصل فى أحسن المجتمعات.
ثانيا: كلمة «ثورة» ليست كلمة فنية متخصصة إلا عند الأكاديميين، وحتى هؤلاء بينهم تباين فى الأطر المعرفية الحاكمة لنظرياتهم؛ ذلك أن الكثير من المصطلحات السياسية ليست حبيسة الكتب الأكاديمية، وإنما هى عادة مصطلحات تُستخدم أو يساء استخدامها، سياسيا وإعلاميا؛ لذلك كثيرا ما تُستخدم فى غير موضعها. وهنروح بعيد ليه؟ ما كان «ستالين» يقنع الشيوعيين بأنهم يمارسون «الديمقراطية المركزية» داخل الحزب الشيوعى، وحتى الآن هناك من يظن أن قتل المصريين، مدنيين وعسكريين، هو نوع من «الجهاد» الشرعى ضد الفئة «الممتنعة»، أى الممتنعة عن تطبيق شرع الله، وهم عادة يقصدون بشرع الله أى حاجة توصلهم للحكم.
إذن المصطلحات الدينية والتاريخية والفلسفية الذائعة إعلاميا والموظفة سياسيا قد تُستخدم كثيرا فى غير موضعها. وتعالوا «نبص بصة» على حدثين تاريخيين وُصفا من قِبل من قاموا بهما بأنهما «ثورة»، الأولى فى الصين والثانية فى البرتغال. اربطوا الأحزمة، بإذنك يا رب.
أما فى الصين، فما سُمى «ثورة ثقافية» فى أواخر الستينات، لم تبدأ كثورة شعبية أصلا، لكنها كانت دعوة من ماو تسى تونج، قائد الحرب الأهلية والثورة الشيوعية فى الصين فى الأربعينات، لمؤيديه كى يتمردوا ضد معارضيه الذين وصفهم بأنهم «برجوازيون ورجعيون». ومنذ أغسطس 1966 تم تكوين مجموعات الحرس الأحمر بين طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس بعرض الصين. تحرك الطلبة بسرعة من مهاجمة مدرسيهم ومسئولى مدارسهم إلى مهاجمة البيروقراطية المحلية. فتم جرّ المسئولين المكروهين من داخل مكاتبهم وعُرِضُوا فى مواكب فى الشوارع يرتدون برانيط للأغبياء أو لافتات معلقة حول رقابهم وأرغموا على الاعتراف بـ«جرائمهم» فى محاكمات شعبية. وتحولت «الثورة» إلى إرهاب ليشمل أهدافا أوسع وأوسع. وتم تحطيم كل شىء يمكن اعتباره «برجوازيا» أو «إقطاعيا»، وتم حرق المكتبات ونُهبت المعابد والمتاحف التى كانت تحتوى على أعمال لا تقدر بثمن، وأصبح أى شخص تعلم فى الغرب أو عاش جزءا من حياته فى الغرب «هدفا للنضال الثورى». وأصبح أى شخص يشير إلى أى خطأ ارتكبه «ماو» وكأنه عميل ومتآمر وطابور خامس. وفى أواخر 1966، تحول الأمر إلى فوضى حقيقية، حتى «ماو» نفسه لم يستطع إيقافها أو السيطرة عليها، ودخلت الصين إلى حالة «اللادولة» وكادت الحرب الأهلية تندلع فى أجزاء كثيرة منها. وكانت هذه واحدة من أسوأ فترات الصين المعاصرة.
هنا تحولت كلمة «ثورة» لتصبح توصيفا إيجابيا تم توظيفه سياسيا وإعلاميا لعمل «شرير» عانته الصين طويلا حتى جاء «تساو بينج» فى منتصف السبعينات، وكان رجلا أحكم من سابقه ليصحح الكثير من أخطاء «ماو».
قفزة سريعة فى اتجاه البرتغال؛ حيث كانت كلمة «ثورة» توصيفا إيجابيا لعمل «إيجابى» لم يبدأ كثورة، وإنما كانقلاب لم تكن له مقدمات شعبية حقيقية. وهذا هو المثال الواضح لثورة 1974 فى البرتغال؛ حيث توجد العديد من الدراسات الأكاديمية التى تشير إلى أن ما حدث «ثورة» ليست بحكم مشاركة الناس فيها من البداية، لكنها بحكم مباركة الناس لها فى النهاية، مثلما حدث فى مصر مع «عبدالناصر» فى 1952. المهم، فى فجر يوم 25 أبريل 1974، قام رتل من 10 مدرعات خفيفة و12 شاحنة باحتلال ساحة الوزارات فى لشبونة، عاصمة البرتغال. وفى ساعات قليلة، ودون إطلاق نار، انضم لمئات الضباط والجنود الذين قادوا «الانقلاب» مئات ثم آلاف من القوات التى أُرسلت من السلطة الحاكمة ضدهم. لكن الناس، حزب الكنبة بتاعهم يعنى، استقبلوهم بالمواكب رغم النداءات الداعية إلى المكوث فى المنازل. وبعد 48 عاما من الحكم الفاشى بعد انقلاب سالازار فى 1926، حدث «انقلاب 1974» بقيادة مجموعة من الضباط لينتهى بالجنرال سبينولا حاكما للبلاد، لكى يسقط النظام فى أيام معدودة وخرج الآلاف يؤيدون «الانقلاب» الذى تحول بفضل الدعم الشعبى إلى «ثورة» أصبحت تسمى «ثورة القرنفل» التى فتحت بابا للتحول الديمقراطى فى غرب وجنوب أوروبا، ما جعل المحللين يصفونها بأنها «الموجة الثالثة» للتحول الديمقراطى.
ثالثا: من حقائق الثورات أيضا أنها مسألة «ديناميكية»، أى «متغيرة ومتحولة» ومواقف الناس منها كذلك. وصدق من قال: «سبحان الذى يغير ولا يتغير». وهذا حقيقى بشدة. تأييد الأشخاص لفعل جماهيرى، سواء تحت اسم ثورة أو انتفاضة أو غيرهما، هو دالة فى الزمن، يعنى مرتبط بالزمن كوعاء لرصد الأحداث الكبرى. والمسألة ليست مرتبطة بالانتهازية الشخصية لكن هذه هى طبيعة الأشياء. إحسان عبدالقدوس كان من أكثر مؤيدى ثورة 1952 وبشدة ودافع عنها بشراسة، لكنه تحول إلى مهاجم لها بشراسة أيضا بعد أن رأى نزعة الضباط الأحرار لقمع الحريات وإلغاء الأحزاب وتأميم الصحف. وهو ما لم يكن بعيدا عن أسماء أخرى كثيرة وعلى رأسها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. وتاريخ العالم ملىء بمن «تحولوا» من موقف إلى آخر وفقا لمعطيات سياسية معينة. توماس باين، المؤيد للثورة الفرنسية فى بدايتها الناقم عليها بعد أن تحول بعض أسمائها مثل روزبيير ولافاييت إلى متاجرين بها، لم يكن فيلسوفا انتهازيا، لكنه رأى انحراف الثورة عن طريقها، وهو نفس ما حدث مع توماس جيفرسون وبينجامن فرانكلين الأمريكيين اللذين أيدا الثورة الفرنسية اعتقادا منهما أنها تسير على نهج «الحرية» بالتخلص من الملكية الذى تبنته الثورة الأمريكية ليفاجآ بأنها خلقت «جمهورية الرعب» فعارضاها، وهو بالضبط ما حدث مع تولستوى بعد الثورة الشيوعية فى روسيا.
ضع «البتاعات التلاتة اللى أنا لسة حاكيهم دول جنب بعض» لتكتشف أننا، نحن المصريين، أصبحنا على أربعة مذاهب:
المذهب الأول: من أيدوا الثورتين، أى: أولئك الذين رفضوا استمرار حكم مبارك وما سميته آنذاك «التزويث»، أى تزوير الانتخابات من أجل توريث البلاد. وبعد فترة من الصبر والانتظار توقعوا أن يكون الدكتور مرسى هو «الفارس وهو الحارس وهو مفجر ثورة مارس وأنه سيبنى مستشفيات ومدارس وهيقول للعفاريت حابس حابس» كما قال بهاء جاهين فى خاتمة مسرحية الزعيم.
لكن كانت المفاجأة غير السارة أن الدكتور مرسى -ورفاقه- لم يستطع إقناع قطاع واسع من الشعب بأنه يستحق أن يحكم مصر. وارتكب من الخطايا السياسية ما جعلتهم يرفضون أن تكون نتيجة الثورة الأولى هى «مرسى» وجماعة الإخوان وفقا لنظرية: «صام، صام، وفطر على الدكتور مرسى ورفاقه»، فكان لا بد من تصحيح مسار الثورة بثورة أخرى. وقد كان.
المذهب الثانى هو أولئك الذين أيدوا الثورة الأولى ورفضوا الثانية واعتبروها «انقلابا»، وهؤلاء ينقسمون إلى فئتين: الأولى هى المؤيدة للإسلاماسى (أى الإسلام السياسى). وهؤلاء يواجهون مشكلة كبرى هى أنهم يشعرون بأنهم فى وضع أسوأ مما كانوا عليه قبل «25 يناير»؛ لأن قبل «25 يناير» كانت عندهم فضيلة ظن الناس فيهم أنهم «ناس بتوع ربنا وأنهم أكفاء»، لكن بعد سنة واحدة فى السلطة، وبسبب مؤامرة يظنونها وكأنهم هم لا يتآمرون، اتضح لأعداد كبيرة من المصريين أن «كفاءتهم» الحقيقية منصبة على الترويج لأنهم «بتوع ربنا». وهذا لا يكفى لإدارة دولة، لكن هناك بالفعل فئة ترى أن ثورة 30 يونيو انحرفت عن مسارها فى 3 يوليو ثم فى 8 يوليو، تاريخ الإعلان الدستورى؛ لأن المسار من وجهة نظرهم ما كان ينبغى أن يسير على هذا النحو. وكانوا يفضلون أنه كان ينبغى أن يكون هناك استفتاء على بقاء «مرسى» أو رحيله، أو استفتاء على خارطة الطريق، أو انتخابات رئاسية مبكرة فقط، ومع الرئيس الجديد، نبدأ الحكاية من الأول. وليس سرا أن هذا ما كان يريده قيادات الجيش ومؤسسات الدولة التى كانت حاضرة فى اجتماع 3 يوليو، وأن هذا ما كانوا سيتفقون عليه مع الدكتور الكتاتنى حال حضوره للاجتماع، لكن الإخوان اعتادوا سوء التقدير حكما ومعارضة.
المذهب الثالث: من عارضوا «25 يناير» وأيدوا «30 يونيو»، وهؤلاء أيضا ينقسمون إلى فئتين: فئة من أيدوا الرئيس مبارك لقربهم منه أو لاستفادتهم من نظامه. والفئة الثانية هى من كانوا يظنون سوءا فى الإسلاماسيين وفقا لنظرية: «مش قلنا لكم». والحقيقة أن هؤلاء الآن يعيشون أحلى أيامهم؛ لأن «مرسى» ورفاقه قدموا لهم هدية تاريخية بأن وقعوا فى الفخ الذى نصبوه لأنفسهم بأن حاولوا أن يسيطروا على كل مؤسسات الدولة على نحو ما حذر منه كثيرون، ومنهم الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله الشهير بعنوان «وقعوا فى الفخ» فى 2 أبريل 2012 حين قرر الإخوان ترشيح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة. وطبعا هؤلاء لا يتمنون بالضرورة عودة دولة «مبارك»، لكن أى نسخة معدلة منها أفضل كثيرا من عودة الإخوان والإسلاماسيين.
المذهب الرابع: من عارضوا ثورة 25 يناير ومن عارضوا ثورة 30 يونيو، والقصة بالنسبة لهؤلاء: اعملوا اللى تعملوه بس عايزين ناكل وعايزين نشتغل وعايزين نربى عيالنا، حرام عليكم، ظلمتونا قبل 25 وبعد 25. يا رب ما نتظلم تانى بعد 30.
خاتمة المقال: حدد موقعك على خريطة المذاهب الأربعة السابقة، وابدأ شتيمة فى المذاهب الأخرى، وحملهم كل الخطايا وبرّئ نفسك من أى خطأ.
صباح الفل.
نقلاً عن "الوطن"