معتز بالله عبد الفتاح
أبدأ بتوضيح المصطلحات.الدولة العميقة كمصطلح، تم استيراده من الخبرة التركية، ولا ينطبق على مصر تماما؛ فهو هناك يعبر عن أيديولوجية ثلاثية الأبعاد، تجمع بين العلمانية والتسلطية والعنصرية التركية ضد الكردية. وملخص هذه الثلاثية هو كلمة واحدة: الأتاتوركية.ولتبسيط المفهوم: الدولة العميقة التركية كالحصان الذى غير مسموح له أن يتحرك خارج حلبة مكونة من الثلاثة أضلاع المشار إليها، وإلا يتوقف الحصان عن الحركة أو أن يلفظ من يمتطيه ويوقعه أرضا. ويقف على قمة الدولة العميقة فى تركيا جنرالات الجيش ورجال المخابرات والأمن وقضاة المحاكم وكبار موظفى الدولة فى الوزارات والمحليات المختلفة.اختلاف الحالة المصرية يعود إلى أن البعد الأيديولوجى ليس قائما، والدولة المصرية كانت طيعة تاريخيا لمن يحكمها، سواء كانت فرعونا أو ملكا أو خديوى أو رئيسا، شريطة أن يعرف كيف يروضها ويخلق تحالفا من داخلها لدعمه، حتى تدين له بالولاء ولمشروعه الإصلاحى، إن كان موجودا، بالإيمان. ومع ذلك نجحت القيادة السابقة فى أن تدخل فى معارك جانبية ومواجهات غير منطقية، جعلت حصان الدولة العميقة يلفظها ويطردها، متحالفا مع أنصار المجتمع العميق. والمعضلة الآن أن هذه المؤسسات أصبحت شاردة تريد قيادة قوية وحكيمة وإلا فستصبح خنجرا فى ظهر من يحكم بدلا من أن تكون أداته من أجل إصلاح أحوال المجتمع.أما المجتمع العميق، فهو مصطلح يحمل قياسا رديئا على فكرة الدولة العميقة، ولكنه يحمل معنى مهما أن هناك جذورا للهوية المصرية وللقيم المصرية، الإيجابية منها والسلبية، تجعل من يحاول أن يتحداها يواجه بما لا يتوقع من تمرد ورفض ولفظ. وأزعم أن الشاعر أشرف الشافعى عبر عن ذلك فى قصيدة مطلعها:اللى بنى مصر كان فى الأصل حقـــانى لا عمره كان سلفى ولا حتى إخــــوانىولا جـــــده ليبرالى ولا أصله علمانىصاين حقوق الناس عارف حــدود ربهوولاده من بعـــده على منهجـــه اتربواكان حتى طوب الأرض يشهد له ويحبه لا لجاه ولا سلطان كان عمره شهـوانى ما يعنينى، وما أنا متأكد منه هما البيتان الثانى والثالث، أصل مصر والمصريين لا يعرف الانتماءات الأيديولوجية الحادة، لهذا فإن أى محاولة لتغيير القيم المصرية الأصيلة التى تراضى عليها المصريون، هى محاولة محكوم عليها بالفشل، حتى وإن نجحت لبعض الوقت، لكن المجتمع ما يلبث أن يلفظها.ضع الدولة العميقة داخل المجتمع العميق تخرج لك مصر العميقة الجذور الراسخة الأًصول، والتى لن يستطيع أحد أن يمتطيها بعيدا عما تريد هى. أقول هذا الكلام بمناسبة دخول لجنة الخمسين لتعديل الدستور مرحلة حرجة، بعد أن بدأوا النقاش الفعلى للعديد من المواد المفصلية التى تمس بشكل مباشر مصالح الدولة العميقة وقيم المجتمع العميق. وحين طرحت المصطلحين على عدد من الأصدقاء الذين يعكفون الآن على تعديل الدستور وجدت منهم نفس الإحساس الذى كان عند بعض المشاركين فى الجمعية التأسيسية، وهو: هل سيقبل الناس فى الاستفتاء ما نقوم به أم لا؟ وما هى الخطوط الحمراء التى لا ينبغى تجاوزها؟ وهل هذه التعديلات ستعيش أم ستذهب مع أول اختلال جديد فى موازين القوى؟وكى أكون محددا، جرى النقاش بشأن المادة 219، وهل هى تدخل فى إطار قيم المجتمع العميق والتى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها أو التسامح مع تجاهلها؟ما قلته إن هذه المادة لا تقدم كثيرا ولكنها تؤخر كثيرا، وقد رفضتها أثناء صياغتها وأثناء التصويت عليها وأرفضها الآن، لما تثيره من ارتباك وتفتحه من جدل ودجل سياسى ودينى لسنا فى حاجة إليه. ولكن ما هو خط أحمر فعلا هو تعديل المادة الثانية، وأظن أن «مبادئ الشريعة» تعبير كاف، ويترك لأجهزة الدولة المختلفة أن تتفاعل معها، تفسيرا وتفعيلا، وليس جهة واحدة حتى لو كانت الأزهر الشريف، كما يحاول التيار السلفى وبعض المنتمين إلى الأزهر الشريف، لأننا بهذا نخلق كهنوتاً غير موجود أصلا فى الإسلام، ولكنهم يقولون ذلك ويفعلون على غيره.وهذا ما ينقلنا كذلك إلى الحوار بشأن الأزهر، لأن هناك داخل لجنة تعديل الدستور من يريد حذف مادة الأزهر تماما، وهو ما يرفضه ممثلو الأزهر، ويبدو أنها نقطة خلافية كبيرة، لأن بعض ممثلى التيار الليبرالى أو العلمانى يرون فى الأزهر خطرا لا يقل عن خطر السلفيين والإخوان. بل إن أحدهم يتبنى موقف الدكتور طه حسين حين اعترض على نص دستور 1923 على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام. ويظن محدثى أن معه ما يكفى من أصوات كى تعاد كتابة الدستور على نحو «عصرى»، وفقا لتعبيره، بالتخلص من المواد ذات الإشارات الدينية تماما.وكان تحذيرى أن المادة الخاصة بالأزهر قابلة للتعديل ولكنها غير قابلة للإلغاء، لأن الأزهر عند ملايين المصريين هو جزء لا يتجزأ من ثوابت مصر العميقة، دولة ومجتمعا، سواء وهو يؤيد الحاكم الظالم بالسكوت عنه أو بدعمه العلنى أو وهو ثائر غاضب ضد المستبد الغاصب. ويوم أن ينسحب ممثلو الأزهر الشريف من اللجنة، وهو ما لا أتوقعه أو أتمناه، فغالبا، التعديلات الدستورية لن تمر فى الاستفتاء لأن وزن الأزهر عند المصريين أهم من كل التيارات السياسية من كل الاتجاهات، مهما حدثت محاولات لتشويهه من هؤلاء أو أولئك.ثم دار الكلام عن مواد القوات المسلحة فى الدستور، وكيف أن هناك مطالب من القوات المسلحة أن يكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة طرفا مباشرا فى اختيار وزير الدفاع، سواء بتسميته وتصديق رئيس الجمهورية عليه، أسوة بالنائب العام، أو أن تلزم موافقته بأن يقوم الرئيس بالترشيح والمجلس الأعلى يقبل أو يرفض، أسوة برئيس الوزراء مع البرلمان.ورغما عن أن هذه الصيغة تخرج عن التقاليد الديمقراطية المتعارف عليها، بحكم أن وزير الدفاع هو وزير من الوزراء، أى هو جزء من السلطة التنفيذية، وليس مثل النائب العام جزءا من سلطة أخرى هى السلطة القضائية، لكن واضح أن هناك إصرارا من القوات المسلحة على ذلك، كى تنأى بنفسها عن التسييس، وإصرارا من بعض أعضاء اللجنة على غير ذلك، كى لا تكون القوات المسلحة وكأنها دولة موازية أو فوق مؤسسات الدولة المنتخبة. وهنا دار الحوار عن إمكانية أن تنفجر اللجنة من الداخل، حال استمر الطرفان على مواقفهما. وهل تملك القوات المسلحة حق النقض (الفيتو) على عمل اللجنة إن لم تصل إلى ما تريده؟ وهذا كان هو جوهر النقاش الذى كنا فيه أثناء الفترة الانتقالية الأولى، وآنذاك كتبت مقالا عنوانه: «لا دستور دائم تحت حكم العسكر» وكان أملنا أن يأتى رئيس جمهورية عاقل يجيد إدارة المشهد لصنع التوافق على قاعدة التوازن بين سلطات الدولة العميقة وقيم المجتمع العميق. ولكننا الآن أمام مشهد فيه عدم توازن واضح، تلعب فيه القوات المسلحة دور القابض على موازين القوى فى المجتمع، وتريد صلاحيات ما كانت لها فى ظل الدستور المعطل. ففى الدستور المعطل ظل القيد الوحيد على تعيين وزير الدفاع أن يكون ضابطا فى القوات المسلحة، ولم يكن فى الدستور ما يسمح بأن تكون ميزانية الجيش كالكتاب المغلق، وإنما هى تناقش على ثلاث مستويات: مجلس الدفاع الوطنى، الذى نصفه من المدنيين، والجهاز المركزى للمحاسبات الذى أخذ استقلالا أكبر، ومجلس النواب الذى يناقش أبواب الموازنة بابا بابا بلا استثناء، وفقا للنص الدستورى. وتظل كذلك قضية محاكمة المدنيين عسكريا إشكالية تصر عليها القوات المسلحة. ورغما عن أن الدستور المعطل وضع جملة أن «القضاء العسكرى مستقل» لإجبار القوات المسلحة على أن تضع نظاما قضائيا مستقلا عن السلطة التنفيذية، وبالتالى تعيد بناء نظامها القضاء على نفس نمط القضاء العادى، مع ترك التفاصيل للقانون كى ينظمه، ولكن واضح أن القوات المسلحة لا تريد لذلك أن يحدث، رغما عن أن التوجه العام فى العالم الديمقراطى هو منع أو التضييق الشديد على محاكمة المدنيين أمام قضاء استثنائى مثل القضاء العسكرى، وهو ما يجعل هذه نقطة خلافية أخرى ستزيد الأمور صعوبة على لجنة الخمسين.هل تستطيع لجنة الخمسين أن تغير فى مصر العميقة دولة ومجتمعا؟ أعتقد أن اللحظة المرتبكة والمربكة التى نعيشها لن تسمح بذلك مهما حسنت النوايا وازدهرت العقول.هؤلاء الذين رفضوا الإبقاء على دستور 1971 وتعديل العطب الذى كان فيه، ثم رفضوا فكرة أن يكون الدستور مؤقتا أو مرحليا لعشر سنوات أو أقل، ثم رفضوا أن يكون الدستور توافقيا بإلغاء المواد الخلافية وتركها للمشرع أو الاستعانة بمواد مستقرة فى دساتير مصر السابقة؛ هؤلاء أخذوا مصر فى رحلة شاقة وطويلة مع جسد عليل ونفوس تزداد احتقانا وعقول تزداد توهانا، ويدفع البسطاء ثمن سوء تقديرهم وتصفيتهم لحساباتهم الشخصية؛ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأخشى أن يقعوا من فوق الحصان مثلما وقع من كان قبلهم: حصان مصر العميقة.يا رب نج مصر منا، يا رب لا تجعل نهايتها على أيدينا. آمين.