معتز بالله عبد الفتاح
مصر بلد مثقل بالتحديات ممزق بالصراعات، ومن الصعب أن يختلف مستقبله عن ماضيه إن لم نختر أى من هذه الصراعات له أولوية مطلقة وأى منها قابل للتأجيل الجزئى، لأنه لا يوجد مجتمع قديم محافظ، وأحياناً رجعى، يمكن أن يتعامل مع كل هذه التحديات دون ترتيب واضح للأولويات وتصور زمنى مرن.
وسأستعرض دوائر الصراع حتى ندرك أننا نخطئ فى حق أنفسنا إن تصورنا أن مشاكلنا سهلة أو بسيطة تحل بقرار حكومى هنا أو هناك، وأن من يحاول أن يفتح «بطن» مصر ليعالج كل مشاكلها دفعة واحدة ستبتلعه هذه المشاكل ولن يستطيع أن يحلها، لأنها بحاجة إلى تحالف واسع حول شخصية عندها مقومات نجاح قيادة الفعل الجماهيرى، مثل نيلسون مانديلا فى جنوب أفريقيا، أو مؤسسة كبيرة تستطيع أن تقوده، مثل حركة تضامن فى بولندا.
كتبت من قبل فى هذا الموضوع، ولكن التطورات تستحق أن نعود إليه. وسأبدأ بالصراعات الخمسة التى أشار إليها صديقى إسلام حجازى، وأضيف إليها خمسة أخرى ليكون المجموع عشرة صراعات تحتاج ممن سيتقدم للانتخابات المقبلة إلى أن يفكر فيها.
هناك أولاً دائرة الصراع العلمانى - الدينى على هوية مصر. رأيناه ونراه فى نقاش حول الدستور، والبعض يراه صراعاً مفتعلاً؛ لأن مصر هى مصر ولن يستطيع أن يغيرها كثيراً فى أى اتجاه كان، والبعض الآخر يرى أن المجتمع من الضعف الثقافى والهشاشة الفكرية بحيث من يسيطر على الدولة سيسيطر بالضرورة على المجتمع، مثلما فعلت الناصرية. وأنا لا أميل إلى هذه الفكرة؛ فبانتهاء المرحلة الناصرية تغيرت سياسات الدولة تماماً، ويظل «عبدالناصر» له ذكرى طيبة عندنا، ولكن من الصعب إعادة استنساخه؛ فهو بالنسبة للمصريين ليس مثل ماو تسى تونج للصينيين أو جورج واشنطن بالنسبة للأمريكان، وهذا لا يقلل من وطنية الرجل، ولكن فى نفس الوقت مصر اليوم ليست مصر التى تركها «عبدالناصر» على الإطلاق، ولا أحد ينسب تطورات ما بعد 1970 إليه إلا على سبيل التمجيد المبالَغ فيه أو الظلم المبالَغ فيه، وهذا ما أعتقده مع أى شخص أو تيار فكرى. المطلوب الآن الدفاع عن الهوية المصرية الجامعة التى لا تسمح لأحد باختطافها أو أَدْلَجتها.
دائرة الصراع الثانى هو الصراع الطبقى بين الأغنياء والفقراء، وهو الذى تجسده عبارات «العيش والعدالة الاجتماعية». معدل الفقر فى مصر عالٍ، وفقر الفقراء فى مخيلة البعض يرتبط بثراء الأثرياء فقط، وأنه لو تمت إعادة توزيع الدخل فى مصر لأصبح الفقراء غير فقراء. الحقيقة هذا غير صحيح؛ معدل الفقر فى مصر كبير ويتزايد لأسباب كثيرة، من ضمنها سياسات خاطئة من الدولة لفترة طويلة، ومنها تداخل السلطة مع رأس المال، ومنها معدلات زيادة سكانية عند الفئات الأكثر فقراً والأقل تعلماً بما يزيد الأمر سوءاً لهؤلاء. ومن يدرس ظاهرة الفقر فى مصر أكاديمياً يكتشف أن المسألة لن تحل بقرار حكومى، سواء ارتبط بإعادة توزيع الدخل أو تغيير نظام الضرائب أو وضع حدين أقصى وأدنى للأجور. المسألة بحاجة إلى استراتيجية قومية تدعم النمو الاقتصادى وتدعم العدالة الاجتماعية كذلك. مشكلة الاعتصامات والإضرابات وقطع الطرق المرتبطة بنقص الخدمات وضعف المرتبات، هى المؤشرات الأهم على أن قضية العدالة الاجتماعية لم تزل فى قمة أولويات الصراع السياسى فى مصر.
ثالثا: دائرة الصراع المدنى - العسكرى. الذى ارتفعت درجة حرارته مرة أخرى بعد 3 يوليو، بعد أن فشل المدنيون فى حل خلافاتهم وإدارة دولتهم بعيداً عن استدعاء القوات المسلحة للمشهد مرة أخرى. وتظل قضايا كثيرة عالقة بين ما هو عسكرى وما هو مدنى، مثل تعيين وزير الدفاع، ومراقبة ميزانيات الجيش، والإصرار العسكرى على محاكمة المدنيين أمام قضائه فى الجرائم التى تهدده فى ظل رفض الكثير من المدنيين لها.
رابعاً: دائرة الصراع بين البيروقراطية والديمقراطية. وهو صراع تاريخى ولم يزل مستمراً فى كل دول العالم بين أولئك الذين يمثلون «الدولة العميقة» والقائمين على لوائح الدولة وقيودها وثوابتها الموروثة، وبين المنتخبين جماهيرياً والمساءَلين سياسياً أمام الهيئة الناخبة والرأى العام من التنفيذيين ونواب البرلمان. ومن يرجع إلى أهم ما كتب «لى كوان يو»، رئيس وزراء سنغافورة، عن هذا الأمر، يكتشف أن سر نجاحه هو أنه أخضع البيروقراطية للسلطة السياسية الديمقراطية، وأخضع السلطة السياسية الديمقراطية لمعايير الكفاءة البيروقراطية فى تجربة لا تتكرر إلا فى ظل قيادات استثنائية تماماً. وكما جاء فى هذا المكان من قبل فإن البيروقراطية ستقتل التنمية كما أن السياسة ستدمر الاقتصاد إن لم تكن لدينا قيادة واعية بهذا الأمر. السؤال: كيف نصنع هذه المعادلة الصعبة بين البيروقراطية والديمقراطية ولاسيما مع ديمقراطيين لا يفون بتعهداتهم الانتخابية وبيروقراطيين يسيطر عليهم منطق الانتفاع من المنصب العام لتحقيق المصلحة الشخصية؟
خامساً: دائرة الصراع الجيلى بين القديم والحديث، بين الشباب الذى يخرج ليتمرد والكبار، لأنه وجد أن الكبار لا يعرفون كيف يديرون البلاد ولا يحققون النهضة التى وعدوا بها ولا يحترمون أرواح الشهداء وتضحياتهم ودخلوا فى صراعات بينية تضيع على البلاد طاقتها وقدرتها على الانطلاق. أزعم أن هناك خطاً زمنياً يمكن تصوره بين أولئك «الكبار» وأولئك «الصغار»، ولكن المعضلة أن الكبار يصدرون للصغار مشاكلهم وينتجون تلاميذ لهم يسيرون على نهجهم. والأمل هو إنقاذ هؤلاء الجدد من أولئك القدامى، بأن يدرك الأصغر سناً القوى الكامنة فيهم، وأن يستفيدوا من آراء وتوجهات الأكبر سناً دون أن يكونوا أسرى لصراعاتهم وخلفياتهم وذواتهم المتضخمة.
سادساً: دائرة الصراع النوعى بين الذكور والإناث. هناك نزعة لا أريد أن أبالغ فيها بين الذكور للتقليل من شأن الإناث واعتبارهن كائنات أقل فى القدرات الذهنية من الذكور. وحين أتناقش فى هذا الأمر مع بعض أقرانى أسمع ما لا أرتضى وينتهى بهم الأمر أحياناً إلى أن يكون التفكير «طيب عايزين بنت معانا علشان شكلنا يطلع كويس». أقول هذا وأنا عندى تحيزاتى الشخصية التى جعلتنى، لفترة، أفضل العمل مع الذكور على حساب الإناث، لكن ليس لأسباب تتعلق بالكفاءة. هذا الصراع كائن ويخلق مظاهر سلبية عديدة بعضها من السوء مثل ما نشاهد من تحرش جسدى، وبعضها يرتبط بخفض السقف الزجاجى لفرص الإناث للعمل والمشاركة المجتمعية بغض النظر عن الكفاءة.
سابعاً: دائرة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، التى تطل برأسها أحياناً ولا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال بصددها. هناك مشكلة حقيقية عند بعض فئات المجتمع بالذات فى المناطق العشوائية والريفية حول علاقة المسيحيين والمسلمين. وكلمة الصراع هنا ليس معناها العنف، فهذا أكثر أشكال الصراع بروزاً، ولكن الخطاب الطائفى مقلق ويتناقض مع ما يقتضيه دين كل منهم مع الآخر وفقاً لآيات المودة والبر (المذكورة نصاً فى القرآن) والمحبة والتسامح (المذكورة نصاً فى الإنجيل)، لنجد من يحرص على أن يتصرف كل طرف وفقاً لمنطق التكفير والإقصاء. هذه مسألة تحتاج هى الأخرى تأملاً عميقاً يخرجنا مما نحن فيه من دائرة خبيثة تنفجر فى وجوهنا بين الحين والآخر إلى نظرة عامة أوسع على وجهة المجتمع.
ثامناً: دائرة صراع بين المركز والأطراف على الموارد المحدودة، وعلى رأسها موارد الأمن والتنمية. القاهرة ومعها عدد من المحافظات الحضرية، وكأنها تحلق منفردة بعيداً عن مشاكل بقية المحافظات التى تعانى أكثر وكأنها ليست جزءاً من مصر. كيف سنتعامل مع هذه المعضلة؟
تاسعاً: دائرة صراع النهضة والتخلف. وهو صراع بين فكر وقيم التعليم والتطور والتكنولوجيا والبناء، وبين فكر وقيم الجهل والأمية والتخلف والهدم. هذه مسألة ثقافية تتطلب أن تكون مؤسسات صناعة الثقافة من تعليم وإعلام ومؤسسات دينية متبنية خطاباً متكاملاً محفزاً لبناء الإنسان المصرى القادر على مواجهة تحديات الغد، وليس إعادة إنتاج تخلفنا.
عاشراً: دائرة صراع الاستباحة والريادة الإقليمية. مصر الآن فى أضعف حالاتها؛ لأنها ضعيفة معتمدة على غيرها إن شاءوا أعطوها وإن شاءوا منعوها. إحكام غلق الحدود ومكافحة التهريب وترميم العلاقات الخارجية على أسس متوازنة ليست طرفاً.
إذا أوجزنا تحدياتنا فى الجهل والفقر والمرض والظلم والانقسام، فلن نستطيع أن نلتفت لهذه التحديات إلا بعد أن يكون لدينا تصور لكيفية التعامل الواقعى مع دوائر الصراع العشر، بعيداً عن التفكير الرومانسى الذى تبناه قطاع من الثائرين، ولا التصور الجامد الذى تبناه قطاع من الرجعيين. المسألة بحاجة إلى رؤية إصلاحية حقيقية، ولكن كيف نصلح من دون إصلاحيين؟ هذه هى المعضلة.
نقلاً عن "الوطن"