معتز بالله عبد الفتاح
استوقفنى شاب من يومين طالبا منى أن أجيب على سؤال: لماذا لا تعود لجنة الخمسين إلى نص المادة الذى كان موجودا فى دستور 1971 بشأن إطلاق حرية بناء دور العبادة بغض النظر عن الدين؟
قلت له القضية ليست فى الدستور، وإنما فى المجتمع، وسأقصر كلامى عن الدستور.
وسؤاله يفتح بابا لمسألة فى منتهى التعقيد حاولت شرحها مرارا أثناء كتابة دستور 2012 ولكن معظم الناس كانت فى حالة شتيمة متبادلة، والحال لم يتغير، بشأن دلالة ألفاظ النصوص الدستورية والقانونية. والمدرسة الدستورية المصرية لها طبيعة خاصة استقت معظمها من التقاليد الفرنسية ومن اجتهادات الفقهاء المسلمين.
وهذه المدرسة تقوم على تغليب روح النص على ألفاظ النص، بمعنى أنها لا تقف أمام النص كلمة بكلمة وإنما هى تفهم التوجه العام للنص بالعودة لمضابط اجتماعات الجهة المنشئة للنص. كما أن هذه المدرسة تقوم على التعامل مع النصوص الدستورية التاريخية كجزء من النظام العام ومن التعبير عن الإرادة العامة للمصريين على امتداد تاريخهم، وبالتالى نادرا ما تلجأ إلى فكرة أن نصا استنسخ نصا إلا إذا كان هذا واضحا تماما من الألفاظ وواضحا تماما من توجه الإرادة إلى ذلك.
وعلى هذا بعض الأصدقاء الذين يقفون أمام كلمة بذاتها هنا أو هناك سواء فى الدستور أو فى القانون هم يراهنون على جزء من المشهد وليس كل المشهد لأن تفسير هذه الكلمة أو تلك ليس مسألة بديهية وإنما هى موضع اجتهاد المجتهدين، وقد يقبل آحاد الناس هذا الاجتهاد أو يختلفون معه. وبالمناسبة المحكمة الفيدرالية العليا فى أمريكا فسرت مواد مرتبطة بحقوق السود والملونين السياسية والاجتماعية فى الستينات من القرن الماضى على غير ما فسرتها قبل ذلك بمائة عامة، وظل النص كما هو ولكن تغيرت الإرادة العامة للمجتمع وتغيرت معها اجتهادات القضاة.
أما بعض من يظنون أن مواد الدساتير ينبغى أن تكون منضبطة أشد الانضباط فأقول لهم: «حظا سعيدا وربنا يوفقكم». ومن يدرسون علوم اللغة يعرفون أن اللفظ القانونى الواحد إن وقع فى يد هيئة تشريعية أو محكمة متشددة ستأخذه فى اتجاه لن تأخذه بها هيئة تشريعية أخرى أو هيئة محكمة أخرى.
أما بشأن العودة للنص السابق الذى كان موجودا فى دستور 1971 كى يتيح لغير أتباع الديانات السماوية الحق فى بناء دور عبادتهم، فالحقيقة أن هذا فى ذاته مثال مباشر على ما أقول. وأعود إلى حكم المحكمة الدستورية العليا بشأن رفض بناء دور عبادة بهائية (محافل) فى عام 1975، ويقينا لم تكن المحكمة تحكم فى 1975 بدستور 2012 وإنما بدستور 1971 الذى لم يكن يضع قيد «أتباع الديانات السماوية». يقول جزء من حكم المحكمة:
«ومن حيث إنه يبين من استقصاء النصوص الخاصة بحرية العقيدة فى الدساتير المصرية المتعاقبة أنها بدأت فى أصلها بالمادتين الثانية عشرة والثالثة عشرة من دستور سنة 1923 وكانت أولاهما تنص على أن حرية العقيدة مطلقة، وكانت الثانية تنص على أن تحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية فى الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافى الآداب.
وظل هذان النصان قائمين حتى ألغى دستور سنة 1923 وحل محله دستور سنة 1956 وهو أول دستور للثورة فأدمج النصين المذكورين فى نص واحد. ومن حيث إنه يستفاد مما تقدم أن المشرع قد التزم فى جميع الدساتير المصرية مبدأ حرية العقيدة وحرية إقامة الشعائر الدينية باعتبارهما من الأصول الدستورية الثابتة المستقرة. أما حرية إقامة الشعائر الدينية وممارستها فهى مقيدة بقيد أفصحت عنه الدساتير السابقة وأغفله الدستور القائم (أى دستور 1971) وهو «قيد عدم الإخلال بالنظام العام وعدم منافاة الآداب» ولا ريب أن إغفاله لا يعنى إسقاطه عمداً وإباحة إقامة الشعائر الدينية ولو كانت مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب. ذلك أن المشرع رأى أن هذا القيد غنى عن الإثبات والنص عليه صراحة باعتباره أمراً بديهياً وأصلاً دستورياً يتعين إعماله.. (لذا فإن) حرية القيام بشعائرها إنما هى الأديان المعترف بها وهى الأديان السماوية الثلاثة».
نقلاً عن "الوطن"