معتز بالله عبد الفتاح
حين يقبض الجيش كمؤسسة على أمور الدولة بسبب (أو فى أعقاب) ثورة شعبية أو تمرد يهدد سلامة الدولة فنحن أمام احتمالات أربعة: الاحتمال الأول أن يقرر الجيش أن يحكم بنفسه (ومصر بعد 1952 مثال على ذلك، بل إن 88 بالمائة من الدول التى حصلت على استقلالها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية شهدت حكماً عسكرياً مباشراً)، وتحتاج ثورات تحرير الوطن من المحتل الأجنبى عادة ثورات أخرى كى يتم تحرير المواطن من الحكم العسكرى، وهو ما حدث فى معظم دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وآسيا ثم أخيراً المنطقة العربية. وفى المراحل الانتقالية يحدث هذا التدافع الناتج عن تخوّف الثوار من نظرية أن «الشعب يريد استمرار حكم العسكر»، فيرون ألا إنجاز تحقق، مهما كان، حتى يروا أمامهم هيئة حاكمة مدنية.
الاحتمال الثانى أن تكون قيادات المؤسسة العسكرية موالية للنظام السابق وتسعى للذود عنه من خلال استخدام القمع المباشر (مثلما فعل الجيش الصينى مع الثوار فى عام 1989، وكل دول أمريكا اللاتينية، عدا دولتين، شهدت مشهداً مشابهاً فى السبعينات، وما يحدث الآن فى سوريا وحدث لحد بعيد فى اليمن وليبيا أمثلة على ذلك).
الاحتمال الثالث هو أن يكون الجيش راغباً فى وضع القواعد السيادية للدولة (مثل تحديد شروط السلم والحرب، والقيم العليا للدولة، ويجعل من نفسه المدافع الرئيسى عنها)، ولكنه لا يرغب فى إدارة الشئون السياسية اليومية، أو ما شاع فى الأدبيات بمنطق أن الجيش أو «يُقعد القواعد» (Rule) والسلطة المدنية «تدير السياسة» (Govern) أو بعبارة أخرى «العسكر يتحكمون ولا يحكمون». وفى هذه الحالة تقوم القوات المسلحة بمهام إدارة شئون البلاد لحين تتمكن السلطة التى تطمئن إليها من إعادة تنظيم صفوفها بعد أن تكون تخلصت من بعض الأسماء القديمة، التى ارتبطت على نحو مباشر فى الفساد، أو باستنساخ قوى أخرى تترجم قرارات القوات المسلحة السيادية إلى إجراءات سياسية وحزبية. وكان هذا هو دور الجيش فى رومانيا بعد مقتل تشاوشسكو، حيث تحولت رومانيا من بعده إلى نمط من الديكتاتورية الأقل تسلطية تحت حكم أيون إيليسكو. أى أننا أصبحنا أمام نظام غير ديمقراطى فى جوهره ولكنه يشهد مساحة كبيرة من حرية الرأى والتعبير التى لا تنال من جوهر تسلطية النظام. وهذا فيه مزية من وجهة نظر الجيش، وهى أن يظل الجيش قابضاً على قواعد العمل العام، ولكن من خلف الكواليس. وتجربة تركيا من عام 1928 وحتى 2010، وبوليفيا فى السبعينات تعكس نمطاً مشابهاً.
والاحتمال الرابع هو أن يتراجع الجيش تماماً عن الحياة السياسية ويترك الأمر برمته للمدنيين، كما هو الحال فى الدول الديمقراطية، شريطة أن تكون النخبة المدنية قادرة على أن تضطلع بمهام إدارة الدولة على نحو كفء. ولكن حتى فى هذا الإطار، فإن دول العالم المختلفة سعت إلى التفكير فى العلاقات المدنية العسكرية بمنطق احترام المؤسسة العسكرية وتطمين قياداتها على أن صفحات الماضى قد طويت، وأن المستقبل لا بد أن يقوم على شراكة مهنية، لا تتدخل فيه السلطة العسكرية فى الشئون السياسية. وهناك صيغ متعددة، مثل وجود نص دستورى يحمى من حمى الثورة (نموذجى شيلى وبوليفيا) أو وجود مجلس أمن قومى يشارك فيه رئيس الدولة والحكومة ووزير الداخلية والخارجية وقيادات القوات المسلحة، لإدارة الشئون التى تقع فى المنطقة الرمادية بين السياسة والعسكرية. كما يمكن أن يقرر دوراً خاصاً للقوات المسلحة فى حماية مبادئ الدولة الأساسية (الديمقراطية، المدنية، حقوق الإنسان الأساسية) عبر استدعاء من المحكمة الدستورية العليا، بناءً على طلب من أغلب أعضاء البرلمان أو رئيس الجمهورية (وهى فكرة أفشلها يلتسن فى روسيا، وفوجيمورى فى بيرو).
هذا المقال نُشر فى مايو 2011، ولأننا عدنا لطرح نفس أسئلة الماضى، أعود لطرح النماذج؛ والقضية ليست فى ترشح الفريق السيسى أو عدم تشرحه للرئاسة، القضية فى أن تثبت النخبة المدنية أنها قادرة على أن تحترم قواعد الديمقراطية دون أن تهدد سلامة الدولة. الديمقراطية والتنمية هما السرعة والدولة هى الموتور والمجتمع هم الركاب، ومصر بحاجة إلى قيادة تحقق أقصى سرعة دون أن تهدد سلامة الدولة أو استقرار المجتمع.