معتز بالله عبد الفتاح
سيادة الرئيس.. تحياتى.. ندخل فى الموضوع.. فيه واحد فى جنوب أفريقيا اسمه القس دوزموند توتو كان رئيس لجان الحقيقة والمصالحة التى كانت قلب وعقل عملية العدالة الناقلة أو الانتقالية هناك. أقترح عليك أن تعزم هذا الرجل شخصياً ليقيم فى مصر شهراً ليشرف على برنامج عدالة انتقالية كامل وشامل.
هناك وزارة للعدالة الانتقالية على رأسها قاض جليل ومعه مستشارون ومساعدون أفاضل، ولكن المسألة تحتاج أن تكون سياسة دولة تضرب كل القيود البيروقراطية والصراعات الخفية بين الوزارات والجهات المختلفة.
فى برنامجى «باختصار»، وفى حلقات مختلفة، استضفت سفيرة جنوب أفريقيا فى القاهرة، والمستشار محمود فوزى مساعد وزير العدالة الانتقالية، والكاتب الصحفى أيمن الصياد وهو من أكثر المهتمين بهذا الملف. وأقوم الآن بالتحضير لحلقة عن الجاتشا جاتشا فى رواندا، أى برنامج العدالة الانتقالية هناك.
سيادة الرئيس.. نحن الجناة فى حق بلدنا إن فشلنا. إما برنامج عدالة انتقالية ناقلة ناجح أو استمرار الاحتراب الأهلى واستنزاف الدولة وإنهاك المجتمع.
سيادة الرئيس.. أنا لا أتخيل أن مصر تفشل فى ما نجحت فيه رواندا بعد مجازر بلغ عدد قتلاها 800 ألف مواطن، أغلبيتهم الكاسحة من قبيلة التوتسى التى تمثل الأقلية. استمرت المجازر شهوراً كان خلالها يذيع الراديو معلومات للمواطنين من قبيلة الهوتو (الأغلبية) عن الأماكن التى كان يختبئ فيها المواطنون من التوتسى. كان القتلى من كل الأعمار بلا تفرقة. وعادة ما يكون القتل مصحوباً باغتصاب وتعذيب وسرقة ونهب. بل إن بعض المعتدلين من الهوتو كانوا يُقتَلون من قبَل متطرفى الهوتو لأنهم كانوا يعارضون ما يفعله المتطرفون. ووفقاً لشهادة أحدهم: «كنا خونة من وجهة نظر بنى قبيلتنا لأننا كنا نحضهم على العيش المشترك والسلام الاجتماعى». المذابح توقفت، ولكن الآلام والذكريات التعيسة لم تتوقف عن إثارة الأحزان. للحظات سيظن بعضنا أن هذا مجتمع انهار وانتهى. الحقيقة أن العكس هو الصحيح، ولو سمعت أو قرأت بعضاً من تفاصيل ما حدث ويحدث فى رواندا لقلت: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون رواندياً». المسألة احتاجت إجراءات العدالة الانتقالية الخمسة الشهيرة: المكاشفة، والمحاسبة، والمعاوضة، والمأسسة والمصالحة.
عاد الروانديون إلى جذورهم ليتبنوا نظام «GACACA COURTS» وتنطق محاكمات جاتشا تشا، والتى تكوّن منها حوالى 10 آلاف محكمة على درجات متفاوتة لتحاكم حوالى 120 ألف متهم بالتطهير العرقى أو القتل الفردى أو السرقة أو الاغتصاب. وهى فى الأصل شكل من أشكال القضاء المحلى القروى. وقد تبنت الدولة هذه الفكرة ونظمتها فى صورة لجان ومحاكم.
الرئيس الحالى فى رواندا اسمه «بول كاجمى». يُنتخب لسبع سنوات، البرلمان الرواندى يكاد يكون الوحيد فى العالم الذى أغلبيته من النساء، مؤشرات النمو فى رواندا تعد من الأعلى أفريقياً، الناس بدأت تنظر إلى الأمام لأنها اكتشفت أن النظر إلى الماضى طويلاً ليس مجدياً بل إنه معطل، وكأنهم تبنوا مقولة وينستون تشرشل: «لو تركنا الماضى يصارع الحاضر، فسيضيع المستقبل».
إجراءات المصارحة والمحاكمة والمصالحة نجحت فى وضع جنوب أفريقيا ورواندا على الطريق الصحيح. نحن الجناة فى حق أنفسنا إن فشلنا.
أختم بقصة قالتها سفيرة جنوب أفريقيا فى القاهرة عن امرأة أفريقية كانت فى المحكمة مع قاتل ابنها صاحب البشرة البيضاء، وبعد أن سمعت منه قصة قتله ابنها، وهى تبكى حزناً عليه. تحركت فى اتجاهه وقالت له ثلاث جمل كان لها أكبر تأثير فى بناء مجتمع جنوب أفريقيا الجديد: أنا أسامحك، ابنى مات، ولكننى من أجل بلدى سأعتبرك ابنى.
المشهد كان مهيباً وأبكى العيون ورد العقول إلى أن هناك قيمة أسمى من الذات وهى الوطن.
سيادة الرئيس، المطلوب منك أن تتبنى بنفسك هذا الملف. المجتمع فى حالة «قرفصة فكرية وسياسية» تجعله خائفاً أن يخرج عن أطر التفكير التقليدية. عليك أن تكون رائداً وقائداً فى مجتمع يفتقر للرؤية والبوصلة والخريطة.
أرجو أن تلفت أنظار التليفزيونات المصرية العامة والخاصة لأن تعرض فيلم AS WE FORGIVE كى نعرف نعمة الله التى أنعم بها علينا فى ثورتنا، وكى نعرف كمية الجحود الموجود فينا وضد بلدنا.
أو اعمل أى حاجة تقدر تعملها لو سمحت.
تحياتى.
نقلاً عن "الوطن"