معتز بالله عبد الفتاح
العنوان مقتبس من قصيدة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، رحمة الله عليه، «جيفارا مات». والحقيقة أننى لو كان لى أن أفاضل بين «جيفارا» و«مانديلا»، لجعلت من «مانديلا» هو «المناضل المثال». ولو كنت، عزيزى القارئ، متابعا جيدا لما يأتى فى هذا العمود، لوجدت أن كاتب هذه السطور لم يهتم بزعيم غير مصرى قدر اهتمامه بنيلسون مانديلا.
هناك نظرية تقوم على فكرة «البطل صانع التاريخ» أو «Hero in history» التى تعتبر أن البلدان التى تمر بمحن وصعاب، سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية أو هزائم عسكرية، تكون بحاجة لقيادة استثنائية تقدم لها رؤية. تقدم لها رؤية. كمان مرة: تقدم لها رؤية.
هذه الرؤية يمكن أن تتلخص فى كلمات معدودات، لكن تفاصيل الرؤية بمبادئها الحاكمة لا بد أن تكون واضحة فى أذهان أصحابها وتنتقل بالعدوى إلى أغلب المواطنين. وبالمناسبة، «مصر أد الدنيا» و«المصريين نور عينينا» ليست رؤية ولا حتى كلمات تعبر عن رؤية.
نيلسون مانديلا لجنوب أفريقيا لعب هذا الدور: البطل صانع التاريخ. هو صنع التاريخ ليس لأنه استجاب له، ولكن لأنه صنعه وترجم رأسماله الشخصى إلى رأسمال سياسى بمهارة شديدة. كتبت ذات مرة متسائلا: ماذا لو كان الشعب المصرى الشقيق أمامه بديل انتخاب نيلسون مانديلا رئيساً للجمهورية؟
غالباً كان سيفعل الرجل فى مصر ما فعله فى جنوب أفريقيا، كان سيسعى إلى إنشاء حكومة متعددة الأحزاب مثلما فعل فى جنوب أفريقيا من إنشاء حكومة متعددة الأعراق والقبائل.
ورغم فوزه بأغلبية ساحقة فى انتخابات الرئاسة، وفوز حزبه بأقل قليلاً من ثلثى مقاعد البرلمان، سعى «مانديلا» لأن يتصرف بمنطق «المصالحة الوطنية» وليس «المغالبة الانتخابية»؛ لذا قرّب منه الكثيرين من قيادات المعارضة والقبائل، وعين نائبين له، على رأسهما دى كليرك، آخر رئيس أبيض فى ظل النظام العنصرى، كى يطمئن تماماً «البيض» الذين كانوا يعيشون فى البلاد على أن «جنوب أفريقيا» بلد الجميع، ويبدو أنه كان يستشيرهم ويشركهم فى صنع القرارات المهمة؛ لأنهم دائماً كانوا يقنعون أنصارهم بصحة قرارات «مانديلا».
وكان «مانديلا» دؤوباً فى الاجتماع الأسبوعى مع قيادات الرأى والفكر والسياسة ورموز القبائل، كما عيَّن لجنة من الكفاءات الاقتصادية لرسم الخريطة الاقتصادية لجنوب أفريقيا، كان مثالاً لما نسميه «رئيس مجلس إدارة الوطن والعضو المنتدب لإدارته».
كرئيس، قرر «مانديلا» إنشاء لجان الحقيقة والمصالحة للتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان التى ارتُكبت من قبلُ، وجمع فيها كلاً من المؤيدين والمعارضين للفصل العنصرى. وقدم أيضاً العديد من البرامج الاجتماعية والاقتصادية التى تهدف إلى تحسين مستويات معيشة السكان السود فى جنوب أفريقيا.
كما سعى لتحسين العلاقات العرقية والقبلية برفع المظالم المتراكمة وتحقيق شراكة سياسية بين الجميع، وخلق ثقافة ترفض تشجيع السود على الانتقام ضد الأقلية البيضاء، واجتهد فى بناء صورة دولية جديدة لجنوب أفريقيا. لتحقيق هذه الغايات، كان يفخر دائماً بأنه شكل «حكومة وحدة وطنية» متعددة الأعراق، وأعلن بلاده «أمة قوس قزح تعيش فى سلام مع نفسها والعالم»، وفى بادرة اعتبرت خطوة كبرى نحو المصالحة، قام بنفسه بتشجيع ورعاية السود والبيض للعب معاً وتكوين فريق «رجبى» وطنى، واستضافت جنوب أفريقيا كأس العالم للرجبى عام 1995 وهو نفس الجهد المشترك بين جميع العرقيات والقبائل عند تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم.
وكان «مانديلا» يعتمد على ثيبو ميبيكى، أحد أهم نوابه وأمهرهم فى إدارة شئون البلاد اليومية، فى حين كان دور «مانديلا» أن يعيد بناء الثقة بين مكونات المجتمع، سواء من خلال حضور اجتماعات ولقاءات وزيارة مرضى ومصابين ومن انتهكت حقوقهم فى فترات سابقة، والسعى للحفاظ على حكومة الوحدة الوطنية، فضلاً عن اهتمامه الشديد بالتواصل مع العالم الخارجى من أجل جذب الاستثمارات والسياحة. وكدليل على نجاح سياسات «مانديلا»، انتخب «ميبيكى» رئيساً من بعده، ولا يزال حزبه فى السلطة.
وعد نيلسون مانديلا، ووفّى، بأن يكون دستور البلاد توافقياً، يعبر عن القاسم المشترك بين الجميع، ولأنه وجد أن ذلك يتطلب فترة زمنية ببناء الثقة، قرر نيلسون مانديلا ورفاقه تبنى صيغة «الدستور المؤقت»، وهو الدستور الذى حكم البلاد من 1994 وحتى 1997، ولطمأنة الأقليات والقبائل، نص الدستور على المادة 88 من الدستور المؤقت، التى أعطت أى حزب يحصل على عشرين مقعداً (أى 5%) أو أكثر من المقاعد فى الجمعية الوطنية الحصول على حقائب وزارية.
والمثير أنه فى انتخابات 1994، حصل المؤتمر الوطنى الأفريقى، بقيادة «مانديلا»، على أغلبية كبيرة للمقاعد فى الجمعية الوطنية، وبالتالى يمكن أن يشكل الحكومة بمفرده، ومع ذلك دعا الرئيس نيلسون مانديلا جميع الأطراف الأخرى للانضمام إلى الحكومة، على الرغم من أنهم لم يحصلوا على الحد الأدنى المطلوب فى الجمعية الوطنية، وهو بهذا يجسد شعار «مشاركة لا مغالبة» ولا يتاجر به.
ومع شخصية «مانديلا» الموثوق بها من الجميع، لما له من كاريزما ومن وفاء بوعد، ومن إشاعة لمناخ الثقة على أساس المواطنة بين الجميع، تم إنجاز الدستور النهائى فى مايو 1996 بعد موافقة مجلسى البرلمان (مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية).
وفكرة الدستور المؤقت التى سبق لى اقتراحها فى هذا المكان منذ مارس 2012 كانت مبنية على تجربة جنوب أفريقيا، ولكن من يسمع أو يستمع أو ينصت؟
وبالمناسبة، هذا لا يعنى أن جنوب أفريقيا لا تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، لكنهم على الأقل لديهم الحد الأدنى من القدرة على بناء مشروع دولة وطنية مشتركة وجامعة.
السؤال: ماذا لو كان حَكَم الدكتور مرسى ورفاقه ومعارضوهم جنوب أفريقيا؟
أعتقد أنه كان زمانهم الآن يصنعون الدستور الثالث أو الرابع؛ لأن كل منتصر يريد أن يفرض شروطه على المهزوم ويسجلها فى الدستور، أعتقد أن الانتخابات التى تمت فى 1994 كانت قد تحولت إلى حرب أهلية حقيقية، وقد كادت بالفعل تتحول إلى حرب أهلية حقيقية فى جنوب أفريقيا فى عقب اغتيال «كريس هانى»، المناضل الأسود الشاب، على يد شخص أبيض متطرف، لولا نجاح نيلسون مانديلا فى الإشارة إلى أن السيدة التى أرشدت عن القاتل الأبيض امرأة بيضاء أيضا. غالبا كان الدكتور مرسى ومن معه، وبالغطرسة التقليدية، سيخاطبون فقط الأهل والعشيرة، إلى أن تنفجر البلاد من الداخل مثلما كاد يفعل فى مصر.
ختاما: نصيحة لوجه الله من واحد منافق أفاك حرامى نصاب متلون خلايا نائمة طابور سابع ماسح بيادة عميل لجهة ما لا أعرفها، أقول: من ينوى أن يحكم هذا البلد عليه أن يقرأ ويتعلم ويستفيد من خبرة نيلسون مانديلا. وكما قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: «تفقهوا قبل أن تسودوا». يعنى تعلَّموا قبل تولى المسئولية؛ لأنها أمانة وخزى وندامة يوم القيامة إلا لمن أخذها بحقها.. خذوها بحقها يرحمكم الله.
نقلاً عن "الوطن"