معتز بالله عبد الفتاح
آه صحيح.. لماذا لم يظهر «مانديلا» فى مصر؟
لأنه لم يظهر «سيسولو» فى مصر.
بس خلاص، المقالة خلصت؛ إلا إذا كان عند حضراتكم بعض الوقت للتعرف أكثر على من هو «سيسولو».
اسمه والتر سيسولو، المعلم (سواء بضم الميم أو كسرها) الذى جذب كلا من أوليفر تامبو ونيلسون مانديلا للانضمام لحزب المؤتمر القومى الأفريقى فى أربعينات القرن الماضى.
وثلاثتهم معا هم من وضعوا بذور حركة التحرر التى كان يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية ممتدة، لكنهم نجحوا فى إدارة البلاد لتصبح جنوب أفريقيا أنجح تجارب القارة الأفريقية فى التحول الديمقراطى. وبالمناسبة، أوليفر تامبو هو الأستاذ الجامعى والمحلل الاستراتيجى الذى وضع البنية المؤسسية لحزب المؤتمر القومى الأفريقى، والذى مات فى عام 1993، والذى كان جزءا من فريق عمل متفانٍ من أجل أن يكون الحزب متجانسا ومتكاملا «لا تنفصل قمته عن قاعه، سواء بسبب أن النخبة مثالية أكثر من اللازم ولا لأن الجماهير ممزقة أكثر من اللازم»، على حد تعبيره. وهذا لم يكن عملا سهلا على الإطلاق، لا سيَّما مع سياسات «فرِّق تسد» التى كانت تتبناها حكومات البيض آنذاك.
«سيسولو» هو الرجل الذى رأى فى الشابين الصغيرين القادمين حديثا لجوهانسبرج فى الأربعينات مقومات الزعامة وكوامن القيادة. استمع إليهما ونصحهما وأعطاهما الفرصة حتى نجحا خلال سنوات قليلة فى تحويل المؤتمر القومى الأفريقى من كيان نخبوى أقرب إلى نادٍ ثقافى وفكرى يعبر عن الطبقة الوسطى من نخبة جنوب أفريقيا السوداء إلى أداة سياسية ضاغطة قادرة على الحشد وتعبئة مئات ثم آلاف الشباب من أجل أى قضية عامة خلال ساعات، متخطية الحواجز التقليدية مثل الانتماء القبلى أو العرقى أو الطبقى. هذا الرجل كان وراء فكرة العصيان المدنى التى تعلمها من المهاتما غاندى فى الهند، وصولا إلى «ميثاق الحرية» الذى تبناه المؤتمر القومى الأفريقى عام 1955، الذى يعتبر من أهم وثائق التحرر الوطنى تقدمية فى القرن الماضى.
فضل هذا الرجل على حركة التحرر الأفريقى بصفة عامة وفى جنوب أفريقيا بصفة خاصة لا ينكره نيلسون مانديلا نفسه الذى يقول عن والتر سيسولو إنه كان معلما وصديقا له وإنه كان واحدا من أهم أسباب إيمانه هو الشخصى بالقضية الوطنية، وكان وجودهما معا فى سجن جزيرة روبن فرصة للتلاقح الفكرى والتعلم الدائم. وكان يصفه بأنه موسوعة فكرية وثقافية فى السجن. «الغضب كان سهلا؛ لأن أسباب الغضب كثيرة، لكن كيف يتحول الغضب إلى طاقة عمل؟ كان يحتاج هدوءا ورزانة وتفكيرا عميقا وعدم استجابة للمشاعر بسرعة. كنا مندفعين جدا كشباب، مشاعرنا كانت هى قائدنا، لكن سيسولو كان أقوى منا جميعا؛ لأنه كان يعرف كيف يتوقف عن الغضب والانفعال ويفكر بهدوء وسكينة. كنا نظن أنه ليس له قلب وأنه عنده آلة حاسبة مكانه. كنا بحاجة لمن هم مثله لأنه كان يمكن أن نخطئ كثيرا جدا وأن نضر بأنفسنا وبمجتمعنا لولا رزانته وحكمته». هذا كلام نيلسون مانديلا عن والتر سيسولو. لشباب اليوم، هذا كلام مهم من شخص مهم عن شخص مهم أنتم بحاجة إليه.
من يقرأ مذكرات نيلسون مانديلا المنشورة فى كتاب بعنوان «Long Walk to Freedom»، وهى مترجمة إلى العربية، وما كتبه آخرون، يزول استغرابه بشأن كيف يخرج إنسان من السجن بعد قرابة الثلاثين عاما ملتزما بقيم العدل والمساواة والتسامح والرحمة بالجميع، بمن فى هؤلاء من السجانين أنفسهم، ليس فضيلة لنيلسون مانديلا فقط، ولكن للكثيرين، وعلى رأسهم والتر سيسولو الذى كان أعلم وأحكم من «مانديلا» حتى تعلمها منه. وكيف أنه كان يسعى لتدريبه ويقدمه على نفسه حتى يتعلم معنى القيادة ويكتسب مهارات السيطرة على النفس وإعطاء القدوة للآخرين. «سيسولو» كان يرى أنه الماضى وأن «مانديلا» هو المستقبل وأن واجبه أن يعلمه وأن يعطيه فرصته كاملة.
مات «تامبو» ثم مات «سيسولو» ثم مات «مانديلا»، وبقى معنى القيادة وروح الفريق والعمل الجماعى وخدمة قضية أكبر من المصالح الشخصية وهى الوطن.
إذن لماذا لم يظهر مانديلا فى مصر؟ لأنه لم يظهر «سيسولو» فى مصر.
نقلاً عن "الوطن"