معتز بالله عبد الفتاح
تكلفة التحول الديمقراطى يمكن أن تكون منخفضة نسبياً ويمكن أن تكون مرتفعة نسبياً ويمكن أن تكون مرتفعة لدرجة الرِّدة وبالتالى العودة إلى الماضى.
إن دولاً كثيرة حاولت ونجحت ولكن بتكلفة عالية للغاية. دولة مثل بنجلاديش ظلت تحاول منذ 1974 وبدأت بوادر نجاح التحول الديمقراطى فى مطلع هذه الألفية، وبعدها بثلاث سنوات بدأت بنجلاديش فى طريق التنمية الشاملة مع خطة لإنشاء أكبر ميناء فى جنوب آسيا وواحد من أكبر مطارات آسيا، معدلات الأداء الاقتصادى فى تحسّن ولكنه نجاح أعقب فشلاً تاريخياً استمر ثلاثة عقود مع تكلفة باهظة للغاية.
كينيا وبوليفيا وصلتا فى النهاية إلى خط النهاية فى عملية التحول الديمقراطى ولكنهما دفعتا ثمناً عالياً ومبالغاً فيه. والحقيقة أن مصر سارت على نهجهما فيما يتعلق بأهم خطأين وقعتا فيهما. أولاً، غياب خارطة طريق واضحة بإجراءات محددة يدعمها تأييد شعبى عبر استفتاء أو انتخابات أولية ويتراضى الجميع على مشروعيتها من البداية. ثانياً، غياب قيادة قادرة على أن تطمئن الخائف وتقنع المتردد وتبنى التحالفات.
دولة مثل كينيا بدأت تجربتها الديمقراطية فى 2001 وكانت نقطة البداية «خريطة طريق» بدأت بقانون «مراجعة دستور كينيا» وكان القانون يمثل إطاراً إجرائياً محكماً لتحقيق مشاركة شعبية واسعة تتضمن مؤتمراً دستورياً وطنياً كمنبر لتبادل الآراء، فضلاً عن لجان استطلاعية انتشرت فى البلاد لمعرفة تطلعات الناس وترجمتها إلى مواد فى الدستور الجديد. وكان من المفترض، وفقاً للخطة الأصلية، أن ينتهى هذا الجهد فى عام، ولكنه استمر ثلاث سنوات، لأن البعض هناك فزع وأفزع الناس خوفاً من دستور جديد سريع تسيطر عليه قبيلة معينة. المهم أنه فى ربيع 2004 انتهت جهود تجميع هذه الاقتراحات وصولاً إلى «لا شىء ضخم» لأن أغلبية البرلمان كانت انشغلت بقضايا أخرى وتراجعت أهمية فكرة تغيير الدستور إلى أن بدأت المعارضة تدخل فى اعتصامات وإضرابات وغلق طرق. وهنا بدأ المشروع يتحرك مرة أخرى فى البرلمان، حيث بدأت الأغلبية، مضطرة، تطرح أفكار الدستور على البرلمان مع تعديلات كبيرة عما طالب به المواطنون أصلاً من ضمنها أنها أعطت رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة بما فى ذلك حقه فى تعيين رئيس الوزراء دون العودة للبرلمان، عكس رغبة أغلبية القوى السياسية. الطريف أن الشعب الكينى الشقيق فى استفتاء 2005 رفض مسودة الدستور بأغلبية 57 فى المائة من الأصوات.
أرجو قراءة الجملة الأخيرة مرة أخرى: «الكينيون رفضوا مسودة الدستور لأنه لم يكن ملبياً لطموحاتهم». واستمر العمل بالدستور القديم خروجاً على خريطة الطريق الأصلية مرة أخرى وصولاً إلى انتخابات معيبة فى 2008 انتهت إلى المزيد من الشغب والعنف، وأخيراً تعلم الكينيون أن الحل اسمه: «التزام خريطة الطريق المتفق عليها». وتم تصحيح الأخطاء بتشكيل لجنة من الخبراء السياسيين والقانونيين تم تكوينها من ستة كينيين وثلاثة غير كينيين: واحد من زامبيا وآخر من جنوب أفريقيا وآخر من أوغندا. وقامت اللجنة بعمل خطة عمل تضمنت النقاش المتخصص (حيث لم تقُم اللجنة باستطلاع آراء الناس مرة أخرى) حول مواد الدستور المثيرة للجدل (ومعظمها بالمناسبة فى الجزء الخاص بصلاحيات رئيس الدولة وعلاقته بالبرلمان ورئيس الوزراء، أى ما يعادل آخر ثلاثة أبواب فى دستور 1971). كما تضمن عمل اللجنة كذلك إعداد برامج للتربية المدنية والديمقراطية وتدريب الناس على قبول الآخر. وأخيراً أُقر الدستور فى 2010 بأغلبية 67 فى المائة بعد 10 سنوات من الصراعات، ودخلت كينيا دائرة «الديمقراطيات الناشئة».
النخبة السياسية المصرية قررت أن تظل تعبث فى «الزراير» حتى لا تقرأ كتالوج التحول الديمقراطى، بل فعلت كل ما يحذر الكتالوج منه. وهو أمر خطير مع دولة بهذا الحجم ومع نخبة شبابية بهذا الفائض من الحيوية. إن السياسة هى فن التوفيق، وليس المفاضلة، بين الأهداف المتعارضة. وهذا فن لا يجيده إلا رجال الدولة ممن تمرسوا على ذلك وجُبِلوا عليه، ولا أرى أمامى فى النخبة السياسية هذه النوعية من الرجال.
وبناء عليه: لمن يقفون فى مقام النخبة وقيادة الرأى العام، تواضعوا لله وللوطن، اجتهدوا فى التواصل والبحث عن حلول مبتكرة بدلاً من المتاجرة بالمواقف.
نقلاً عن "الوطن"