معتز بالله عبد الفتاح
أتفهم أن ما تم تسريبه عن الفريق السيسى لم يكن مقصودا منه أن يعرف به غير من أفضى لهم به. وإجمالاً، أرى أن هذه التسريبات مفيدة ما دمنا نتحدث عن شخص شديد القرب من منصب الرئاسة فى واحدة من أصعب الفترات التى تمر بها مصر. وأتفهم كذلك ما سبق أن صرح به بأن «من يعرف مشاكل مصر لا يفكر فى الترشح للرئاسة».
وأعرف من لقاءات شخصية معه أنه دارس جيد لمشاكل البلد، سواء بحكم المنصب أو بحكم استعداده النفسى والذهنى لما قد يضطر إليه يوما ما من تحمل مسئولية بلد يرى فى المنام أنه سيصبح رئيسا له.
أتذكر أننى كتبت الكلمات التالية منذ أكثر من عامين، وهى أول ما حضرنى حين سمعت بالتسريبات الأخيرة للفريق السيسى. قلت فى مقال سابق بعنوان «وكذلك سولت نفسى» ما يلى:
العقل البشرى لديه قدرة هائلة على خداع النفس، ومن تخدعه نفسه يكون قادرا على خداع الآخرين؛ لأنه يوقن فى نفسه الصدق، ويتصرف بدافع من يقينه هذا بأنه صاحب قضية عادلة، ولكن حين يصل إلى النتيجة النهائية التى قال بها السامرى بعد أن تركه سيدنا موسى، عليه السلام، لمناجاة ربه، فلما عاد سأله: «فما خطبك يا سامرى» فرد السامرى الذى كان قد صنع عجلا ليعبده بنو إسرائيل قائلا: «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي».
وقد جاء شاب محدود القدرات ولا يخلو من غطرسة إلى وينستون تشرشل، وقد كان رئيسا لحزب المحافظين، فوجّه له انتقادات حادة وأعلن بوضوح أنه قرر أن يصبح فى يوم من الأيام رئيساً لوزراء بريطانيا، فسأله «تشرشل» عدة أسئلة أثبتت بتفصيلاتها أن الشاب يجيد القدرة على الحلم وانتقاد الآخرين ولا يجيد القدرة على العمل وانتقاد الذات، فقال «تشرشل» مقولة شائعة فى السخرية من محدودى الموهبة، رغم أن الكثيرين لا يعلمون أصلها، هى: «إنه شاب متواضع، ولديه الكثير من الأسباب لكى يكون أكثر تواضعا».
ودلالة القصتين تأتى من تحليل طرق عمل العقل البشرى وكيف أن العقل يمكن أن يشقى صاحبه حين لا يعرف قدر نفسه فتكون الفجوة هائلة بين طموحه (وربما طمعه) وإمكاناته (وربما ما يتصورها إمكاناته).
لكن هذه الفجوة نفسها لها درجات، وهى فى أكثر درجاتها اتساعاً تجعل الإنسان يظن فى نفسه أنه المهدى المنتظر مثلا، بل إن الحروب المهدية فى السودان فى ثمانينات القرن التاسع عشر نفسها بدأت بحلم الشيخ محمد أحمد، الذى ظن فى نفسه المهدى. والحلم، أو الرؤيا، التى جاءته فى المنام، على ما يقول المؤرخون، أنه سيكون المهدى المنتظر الذى سيملأ الكون عدلا وخيرا بدءا من «البقعة المباركة» كما كان يصفها وهى «أم درمان».
وفجأة، صعدت روحه إلى السماء بعد أربعة أعوام فقط من «الحلم» وسط دهشة أنصاره المجاهدين وعامتهم من الذين ينتظرون إتمام بقية الحلم المهدوى: صلاته فى مكة والقدس وإسطنبول، وأن يملكوا الدنيا ويخضعوا جميع الأمم ويشيع المهدى العدل ويحثو المال حثواً ويقيم الدين الحق بأن يعيد الدنيا إلى الآخرة كما بشرته الحضرة. ومات الرجل، وظل الحلم حلما.
يصادف فى نفسى هوى بعض الشعر الصوفى من قبيل: «يا ربنا ليس لنا من أمرنا إلا السكوت، يا ليتنا نرضى بما يُعطى لنا حتى نموت، والمبتلى يا ذا العُلا لا يبتغى إلا النجاة، فى يسرها وعسرها ملعونة تلك الحياة، نبينا إمامنا به نقتدى وبه نهتدى ورضاه من رضا الإله». وكذا قول أحد القساوسة: «نرضى بالمر الذى يختاره الله لنا أكثر من حبنا للحلو الذى نختاره بأنفسنا». وقال القرآن العظيم: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا».
قلت للدكتور مرسى من قبل: أن تنجح كمرشح للرئاسة، فأنت بحاجة لدعم أنصارك؛ لكن كى تنجح كرئيس، فأنت بحاجة لدعم أعدائك. ولا جديد تحت الشمس.
ونجاح الرئيس القادم لن يكون بالاستناد إلى تاريخه وأمجاده الافتراضية، ولكن إلى برنامج يعالج به كوارث مصر الخمس: الجهل، الفقر، المرض، الظلم، الانقسام.
نقلاً عن "الوطن"