معتز بالله عبد الفتاح
نحن أبناء مخلصون لأجدادنا، ماهرون فى صناعة الانتصارات الوهمية اللحظية بلا نظرة طويلة الأمد. والأمور بما يغلب عليها، لأنه لا يزال بيننا بعض العقلاء. نحن شعوب تعشق لعبة «الطاولة» لأنها تقوم على رد الفعل التلقائى لحوادث الزهر، عفواً الدهر، وقليلاً ما تلعب «شطرنج» بما يحمله من رؤية تقوم على التخطيط لعدة خطوات متتالية وتوقّع تحركات الخصم ومحاولة ضربها.
من يقرأ عن هزائم العرب المتتالية يكتشف كيف أنهم كانوا قصيرى النظر، يتصرفون بما يضرهم وكأنهم أعداء أنفسهم.
مثلاً، أثناء حرب 1948 مع إسرائيل، خرجت بعض الأصوات من فلسطين المحتلة لتعلن أن إسرائيل تقتل من تجدهم من عرب وترتكب المجازر بلا هوادة وأنها تدمر كل ما تجد من أبنية أو حتى ماشية. وكان هدف من ذهبوا هذا المذهب من عرب فلسطين أن يستنفروا العرب وأن يجبروهم على إعلان الحرب على ميليشيات إسرائيل. ولكن أحداً لم يفكر فى التأثير السلبى على إشاعة مثل هذه الأقوال على أهل فلسطين أنفسهم الذين بدأوا فى الهجرة الجماعية من بيوتهم وديارهم خوفاً من هذه الأقوال المرسلة التى أشاعت الخوف، ففزعوا وأفزعوا الناس، وهذه الأقوال لم تكن فى أغلبها صحيحة. ولكن كانت مثل الاستراتيجية الهادمة لذاتها: «Self-destructive strategy».
أورد السفير سيد قاسم المصرى مثالاً يؤكد أننا أبناء مخلصون لأجدادنا حين ذكر فى مقاله أمس فى «الشروق» ما يلى: «فى منتصف الستينات من القرن الماضى كنا مجموعة من شباب الدبلوماسيين تعمل فى بعثة مصر لدى الأمم المتحدة فى نيويورك، وعلى أثر هزيمة عام 1967 تقدمت دول أمريكا اللاتينية بمشروع قرار يدعو إلى انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة مقابل شىء واحد فقط: هو إنهاء حالة الحرب.. واختار العرب الرفض بعاطفتهم وليس بعقولهم وقرروا الحشد للتصويت بـ(لا).. وما إن سقط القرار حتى دوّت القاعة بالتصفيق.. تصفيق العرب طبعاً وحلفائهم وكنا نحن الشباب نلتهب حماسة ونحن نصفق حتى كدنا ندمى أكفنا.
ولكن ما خرجنا به فى ذلك اليوم من شهر يونيو عام 1967 هو التصفيق وبهجة (الانتصار) الزائف ولم تمضِ سوى أربعة شهور حتى أصدر مجلس الأمن قراره الشهير 242 ذا الفقرة الشهيرة (الانسحاب من أراضٍ وليس الأراضى) بالإضافة إلى التزامات أخرى كثيرة لم تكن موجودة فى المشروع اللاتينى».
انتهى الاقتباس، ولم تنتهِ الأمثلة. أتذكر الاجتماعات التى كان يعقدها عدد من العقلاء مع شباب الثورة كى يستعجلوا تكوينهم لأحزاب سياسية وأن يستغلوا إعلان المجلس العسكرى أنه يريد أن يعود إلى ثكناته فى 6 أشهر قبل نهاية عام 2011 وأن يتخلوا عن سياسة الحشد فى الميدان من أجل دخول البرلمان. وكانوا عادة ما يصفون هؤلاء بأنهم «إصلاحيون» وكأنها «شتيمة» لأنهم «غير ثوريين» وأن «الثورة مستمرة» و«التطهير قبل التطوير».
وهى نفس المواقف الحنجورية بشأن رفض تعديل دستور 1971 كى يكون دستور الفترة الانتقالية وأن يتم التركيز على العطب والخلل فى أبوابه الخاصة بنظام الحكم والأحكام العامة. وكانت الشعارات المرفوعة هى: «لا لترقيع الدستور» وإعلان «خذ معك خمسة» و«الدستور أولاً» مع أنه فى الحقيقة دستور 1971 كان أولاً وقبل الجميع وكان يمكن البناء عليه. ومما يثير السخرية والسخط أن تجد من يطالب اليوم بالعودة إليه، ولسان حالهم: «يا ريت اللى جرى ما كان».
يأتى بعض أنصار جبهة «خلقنا لنعترض» مرة أخرى كى يقولوا «لا» للتعديلات الدستورية دون أن يقدموا لنا رؤية بشأن البديل. تسجيل الموقف الفردى سهل، سهل جداً، ولكن التفكير فى مستقبل دولة بحجم مصر صعب، صعب جداً.
لن أسجل أى مواقف كى يحبنى الهتيفة ولكن سأفعل ما يغلب على ظنى أنه صواب وفى خدمة هذا البلد. وبناء عليه: سأقول «نعم» للتعديلات الدستورية ليس لعظمة النصوص بالضرورة، ولكن لعظم التحديات بالضرورة. أزعم أن المجتمع يستطيع أن يستوعب ويتعامل مع تحديات ومشاكل «نعم» ولكن المجتمع لن يستطيع أن يتعامل مع تحديات ومشاكل «لا».
هذا رأيى ألتزم به، ولا ألزم به أحداً غيرى. والله من وراء القصد.
نقلاً عن "الوطن"