معتز بالله عبد الفتاح
هاتفنى صديق، أصاب ابنه الطالب الجامعى اكتئاب شديد لما يحدث فى الجامعات المصرية الآن، ودون الدخول فى الكثير من التفاصيل، يبدو أن الشاب ومعه بعض من أصدقائه شديدى الإيمان بالثورة وأهدافها كثيرى الشكوى مما يفعله الكبار بالصغار ويرون أن تضحياتهم لم ولن تؤتى ثمارها.
بدا للشباب، وأنا أسمع منهم وكأننى أكثر هدوءاً وأقل انفعالاً بما يقولون، وكان سؤالهم: هل هذا عن يأس، أم عن علم؟ وأنا لا أدعى علماً، ولم يتملكنى اليأس. لكننى كنت فى يوم من الأيام أكثر حماساً منهم لأمور كثيرة، كنت أظنها آنذاك حاسمة واضحة وضوح الشمس، حتى تبين لى لاحقاً ما لم أكن أعلم، فصرت أقل ولعاً بإطلاق الأحكام العامة وأكثر وعياً بدور الفرد فى وسط المجتمع، وأكثر حذراً من الدعاوى المفرطة فى التفاؤل أو الإحباط غير القائمة على قراءة متزنة للواقع.
الشباب المتحمس، عادة ما يظنون أنهم مسئولون عن الكون بما فيه من أفراح وأطراح، انتصارات وهزائم، وأتذكر مقولة للشاعر والفيلسوف البنغالى «طاغور»، حين جاءته مجموعة من الشباب المتحمس والذين كانوا ينتقدونه لأنه لم يكن يشاركهم دعوتهم للحرب على أعدائهم من السيخ، فكان يقول للشباب: «أنتم مخلوقات الله، ضيوف الكون، ولستم آلهة ولستم صانعى القدر، أنتم تحاولون، فإن التقت إرادتكم مع إرادة الله وقعت حوادث الكون، وإن لم تلتقوا، فلا تبتئسوا».
وهو ما قاله الزكى النجيب محمود: «إن فى الكون تدبيراً يكفل أن يعتدل الميزان، ميزان الحياة، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك إلا ابتغاء تكامل أسمى لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر إلا بما يعقب عليه بما يوازنه، ودائماً إن مع العسر يسراً».
السؤال الذى ينبغى أن تسأله لنفسك: «هل كان بإمكانى أن أفعل شيئاً لم أفعله لإنقاذ صديقى الذى مات؟ هل كان بإمكانى أن أفعل شيئاً لم أفعله لأغير مسار الأحداث؟
نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله..
خرج عمر بن الخطاب إلى الشام حتى إذا كان بسرغ (قرية قرب الشام)، لقيه أمراء الأجناد أبوعبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه بأن الوباء قد وقع بأرض الشام (وباء الطاعون)، فاستشار «عمر» المهاجرين والأنصار، وأخيراً قرر عدم الذهاب إلى الشام المصابة بالطاعون.
فقال «أبوعبيدة»: أفرار من قدر الله؟
فقال «عمر»: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان (أى حافتان): إحداهما مخصبة، والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟!
فجاء عبدالرحمن بن عوف، فقال: إن عندى من هذا علماً، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه».
فقال «عمر»: الحمد لله؛ ثم انصرف.
القصة ببساطة أن قدر الله واقع لا محالة، ومن كان قدره أن يموت غريقاً، فلن يموت مريضاً، ومن كان قدره أن يموت فى يوم بذاته فلن يموت قبلها أو بعدها. هذا قدر الله فينا. ومن لن يناله قصاص الناس فى الدنيا، سيناله قصاص الله فى الآخرة. هكذا أراد الكون رب الكون.
أسباب التفاؤل الوضعية قليلة جداً، ولكننا أمرنا من قبل خالقنا ألا نيأس وأن نعمل بحذر وبأمل، نحن مسئولون عما يقع فى دائرة تأثيرنا، وليس ما يقع فى دائرة اهتمامنا. وفشلنا وعجزنا وتخبطنا وارد لنقص خبرتنا وعدم إحاطتنا، وهذا من استواء النقص على مجمل البشر، ولكن المهم ألا نجعل الفشل والعجز والتخبط منطق الحياة، وأن نخرج سريعاً من محاولة النفخ فى «القربة المخرومة» للبحث عن «قربة أخرى غير مخرومة» نستطيع أن ننفخ فيها من روح الله فينا.
يا أصدقائى: نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله؛ فأحسنوا الفرار إلى الله وأحسنوا العمل لله. عسى الله أن يجد فينا بعضاً من الإخلاص، فيجزينا به بعضاً من الفلاح.
والله تعالى أعلم.
نقلاً عن "الوطن"