معتز بالله عبد الفتاح
هل تعلم أن الأكثر تعصباً هو الأكثر جهلاً بدينه وبدين الآخر. وهى ظاهرة عالمية، فالأكثر تحيّزاً ضد المسلمين فى الغرب هم الأقل فهماً، ليس فقط للإسلام، ولكن كذلك لدينهم.
فمثلاً تشير استطلاعات الرأى إلى أن نصف البروتستانت فى أمريكا لا يعرفون من هو مارتن لوثر (وهو بالمناسبة مؤسس البروتستانتية) وعادة هؤلاء هم من الأكثر تأثراً بالخطاب السلبى تجاه المسلمين، وهم الأكثر تسليماً بصحة كل ما يسمعونه من المتطرفين عن الإسلام وعن المسلمين؛ ولهذا كان كلام إدوارد سعيد عن أن الصدام الحقيقى ليس صدام الحضارات، وإنما هو صدام الجهل والجهلاء من الطرفين. وعليه فنحن بحاجة إلى أن يفهم بعضنا بعضاً، وأن يزيل كل طرف مخاوف الطرف الآخر.
ودعونى أتحدث عن خبرة شخصية، فأنا طالما عرفت زملاء مسيحيين وكنت أتعامل معهم بلا أدنى اعتبار لدينهم، ولكن بعد أن عرفت أكثر عن المسيحية وعن مسيحيين عظماء كانت لهم مواقف وطنية مشرفة، تغيّرت نظرتى إلى أشقائى فى الوطن وفهمت أكثر معنى الآية الكريمة: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ».
فالمسيحية فى جوهرها محبة، والمحب لدينه محب لخالقه والمحب لخالقه محب لمخلوقاته بلا استكبار. وهذا هو جوهر معنى الآية الكريمة.
وهو ما جاء فى القرآن من حث المسلمين على قبول التنوّع فى الدين: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا» أى ألم يعلم الذين آمنوا أن التنوع الدينى هو قرار إلهى، علينا أن نتعايش معه: هكذا أراد الكونَ ربُ الكون.
وهو ما ترجمه العظيم على بن أبى طالب فى نصيحته لمالك الأشتر، واليه على أهل مصر غير المسلمين: «وأَشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أُكلهم، فإنهم صنفان أما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذى تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه».
المسيحيون للمسلمين والمسلمون للمسيحيين إخوان لهم فى الوطن، ونظراء لهم فى الخلق، قد يحدث من هؤلاء أو أولئك الزلل، فعلينا أن نتعامل بالعفو والصفح «أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»؟
من العدل ألا نرتدى نظارة مكبرة حينما نتحدث عن أنفسنا وحقوقنا، ونظارة مصغرة ضد غيرنا وحقوقهم. تعالوا نغير النظارة من أجل الوطن، بل من أجل كل مواطن فى الوطن.
نحن بحاجة إلى «ميثاق شرف دينى» نكتبه بعقول ترى مخاطر الفتنة وقلوب تحب كرامة الإنسان وتقدر له حقه فى اختيار ديانته، وتدعمنا فيه الآيات الآمرة من الكتب المقدسة مثل تلك التى تقول: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ».
ولا يُفهم البر والقسط الواردان فى هذه الآية إلا بقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة». وقد جاء فى الإنجيل (إنجيل متى 5: 44): «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».إذن نحن أمام ديانتين تقومان على الرحمة والإحسان تجاه أتباعهما وحتى مع من لم يؤمن بهما.
يقول سائل: وماذا عن الآيات الأخرى التى تتحدث عن تكفير الآخر واستخدام السيف معه؟ هذه الآيات موجّهة للعدو فى حالة الحرب، وليس للمواطن الشريك فى الوطن.
نريد ميثاقاً يتبناه الجميع: مسلمون ومسيحيون، الأزهر والكنيسة، الإخوان والبروتستانت، السلفيون والكاثوليك، اللادينيون والعلمانيون، يقوم على أن مصر هى الكيان الحاضن لكل من يعيش فيها من أبناء الوطن، وأن ترديد آيات التكفير ليس فى مصلحة الجميع.
فى عيدهم أوجه تحية لأحفاد مكرم باشا عبيد الذى وقف مخلصاً ضد محاولات الإنجليز تدمير الوحدة الوطنية بقوله: «نحن مسلمون وطناً ونصارى ديناً، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصاراً.. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين». آمين.