معتز بالله عبد الفتاح
يفرّق الفيلسوف الألمانى «هيجل» بين «الدولة» و«القائمين على جهاز الدولة». وحين يزعم الحاكم أنه الدولة مثلما فعل لويس السادس عشر بقوله: «L’ETAT C’EST MOI» أى «الدولة هى أنا» فإنه يدمر الحد الفاصل والضرورى بين سلطة الحاكم وشرعية نظام الحكم وسيادة الدولة، وهى ثلاثة مصطلحات متلازمة لكنها متمايزة.
«هيجل» يفرق بين السلطة باعتبارها الأشخاص القائمين على الحكم، والأشخاص يصيبون ويخطئون، والدولة باعتبارها حامية المجتمع الضامنة لحقوق أفراده. ومن يخطئ فلا بد من عقابه وفقاً للدستور والقانون اللذين معاً يجسدان أساس شرعية نظام الحكم، وهذا كله يحدث فى إطار من سيادة الدولة ووحدتها واستمراريتها وقدرتها على الحفاظ على تماسك المجتمع وحقوق أفراده. من يقود السيارة هو أشبه بأشخاص السلطة، وقواعد المرور هى نظام الحكم الذى ينبغى أن يلتزم به أشخاص السلطة وهم يقودون السيارة، وقواعد نظام الحكم هذه لا بد أن تكون واضحة ومعروفة للجميع مثلما هى فى حالة وضع لافتات توضح السرعة الملائمة وأماكن ركن السيارات وتحذيرات وتنبيهات لضمان سلامة الجميع، أما الطرق والشوارع فهى ليست ملكاً لأى قائد سيارة بذاته ولا للشرطى الذى يسجل المخالفات التى تقع نتيجة تجاهلنا لقواعد القيادة، وهى قواعد يمكن أن تتغير، شريطة أن يكون تغيرها فقط من أجل تحقيق الصالح العام. حاجتنا للطريق لا تبرر للقائمين على حمايته وصيانته ظلمهم للسائرين عليه.
مع الأسف الشديد، عرفنا حكاماً فى منطقتنا والعالم يساوون بين أنفسهم والدولة بمنطق «أنا الحكومة» بما جعل استبداد الدولة ينتج استبداد الأفراد وفقاً لثقافة «أنا الشعب». وليس مستغرباً أن تجد شخصاً يتحدث فى أجهزة الإعلام بمنطق «الشعب يبايع المشير السيسى» وربما يكون بعضهم أكثر تواضعاً ليقول: «شعب محافظة كذا يبايع المشير السيسى»، وهذه نفس الغفلة والاستغفال الذى تحدث به «الواد مزيكا» فى مسرحية «المتزوجون» حين سأله «حنفى»: «بتفهم فى السياسة يا واد يا مزيكا؟» فردّ «مزيكا» مستنكراً السؤال: «بافهم فى السياسة؟! ده أنا الشعب»، البلد مليانة «مزيكا» من النفاق والمداهنة والمبالغة.
نحن لا يزال بيننا من يدعى الحديث باسم الدولة، وهو ليس أكثر من ترس صغير فيها، يسىء لها ويجعل قطاعاً من المجتمع فى عداء معها بسبب أخطائه هو، ولا يزال بيننا كذلك من يدعى الحديث باسم الثورة أو الشعب أو الجماهير وهو لا يعبر إلا عن نفسه.
ما حدث فى سوريا وليبيا وغيرهما أن الثورة كانت على ظلم السلطة الذى ارتبط لعقود بمن جعل من نفسه مساوياً لنظام الحكم ثم مساوياً للدولة نفسها. فكانت الثورة عليه هى ثورة على الدولة. انهيار الدولة كثيراً ما يكون بسبب ظلم القائمين عليها. والمقارنة لا بد أن تكون حاضرة فى أذهاننا حين استقال الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، بعد فترة من الممانعة، بعد أن وجد أن التأثير السلبى لأخطائه لم يعد ينال من سلطته فقط وإنما امتد إلى شرعية النظام الحاكم ومؤسسات الدولة، بل إن الانقسام المجتمعى وصل إلى درجة جعلت الرأى العام فى بعض الولايات تطرح فكرة: «لماذا تحكمنا واشنطن؟» وفى تلك الفترة كان الرأى العام الأمريكى جريحاً ومتشككاً أصلاً فى نزاهة وكفاءة السياسيين بسبب موت حوالى 58 ألف أمريكى فى حرب فيتنام مع تضليل إعلامى وسياسى واضح بشأن كمّ الخسائر وتضاؤل المكاسب المرتبطة بهذه الحرب. هنا وجدت النخبة الحاكمة أن التضحية بأهم شخص من أشخاص جهاز الدولة ضرورى للحفاظ على الدولة. وهذا هو جوهر المعضلة التى تواجهنا فى مصر. هناك مسئولون، سياسيون وبيروقراطيون، لا يعرفون خطورة النتائج المترتبة على أخطائهم لأنها تمتد لنظرة الناس لحاجتهم للدولة أصلاً إذا كانت دولة ترتكب الظلم وتبرره.
مصر بحاجة لدولة قوية فى العدل، وليست باطشة فى الظلم. دولة قوية وليست دولة ظالمة، وإلا فإن النتيجة ستكون لا دولة على الإطلاق. تقع أخطاء كثيرة، لذا لزم التنويه.
نقلاً عن "الوطن"