معتز بالله عبد الفتاح
ما الفارق بين الآية الكريمة التى تتحدث عن الحديد الذى أنزله الله فيه بأس شديد ومنافع للناس، وصناعة الحديد فى اليابان؟
ما الفارق بين الآيات الكريمة التى تحضنا على الشورى والتعارف والتعلم، وتربية الأطفال فى الدنمارك؟
نحن لدينا آيات كريمة، وهم لديهم برامج عمل ومدارس وجامعات ومصانع، نحن ننام فى النور، وهم يستيقظون فى الظلام.
يقول علماء نفس التربية إن القيم التى يكتسبها الطفل خلال السنوات الأولى من عمره، وصولاً إلى ما يعادل التعليم الإعدادى عندنا، تتحول إلى جزء من تكوينه بشكل تلقائى. بعبارة أخرى، تتحول هذه المهارات إلى عادات وكأنه مولود بها. هذا لا يعنى أنه لا يمكن أن يكتسب مهارات أخرى، ولكنها تظل دائماً أموراً يحتاج لأن يمارسها بوعى وبقرار وبشكل يبدو أحياناً مفتعلاً. والفارق واضح بين يقود سيارة جديدة وهو يبحث عن المفاتيح والزراير ويجد صعوبة فى ذلك، ومن يقود سيارة اعتاد عليها لسنوات فأصبحت تفاصيلها جزءاً من المعتاد والطبيعى فى حياته.
ومن أجل هذا ولهذا، يكون الأكثر تقدماً منا حريصين جداً على أن يعلموا أولادهم قبول الاختلاف فى وجهات النظر من مرحلة مبكرة دون أن يتحولوا إلى أعداء، لهذا تأتى لهم مسألة النصر والهزيمة، والمكسب والخسارة، والاتفاق والاختلاف، ون مجهود.
نحن لدينا مشكلة حقيقية: حتى أولئك الذين يطالبون بالديمقراطية يمارسون الاستبداد بشراسة. نحن نعرف كلمة الديمقراطية لكننا لا نعرف آدابها. وآدابها مسألة تحتاج لتدريب.
نحن نريد من أولادنا وبناتنا أن يكونوا أحسن منا: نريد لهم أن يستمعوا (وليس فقط أن يسمعوا)، أن يفكروا بشكل مستقل (وليس أن يكونوا مجرد إمعات)، أن يتفقوا ويختلفوا وأن يظلوا أصدقاء (وليس أن يتحولوا إلى أعداء)، وأن يغيروا وجهات نظرهم ومواقفهم إن وجدوها خطأ (وليس أن يكابروا ويتكبروا).
فى المجتمعات الأكثر تقدماً يبذلون مع النشء من الجهد ما يجعلهم أشخاصاً أسوياء قابلين لأن يعيشوا فى مجتمع ديمقراطى، مع احتمالات الخطأ الواردة فى كل مجتمع. سأحكى لحضراتكم بعضاً مما يكتسبه الطفل من مهارات فى المدارس الغربية.
هناك مثلاً لعبة اسمها «تغيير الدوائر» (Changing Circles)، يتعلمها الأطفال فى الابتدائى والإعدادى فى الخارج، تخيل لو عندك عشرة أطفال، يمكن لك أن تجعلهم يقفون فى دائرتين داخل بعض أو بجور بعض. وكل دائرة يتحرك أفرادها ببطء ولكن فى اتجاهين متعارضين. دائرة تتحرك فى اتجاه عقارب الساعة والأخرى تتحرك فى الاتجاه المضاد.
يبدأ المدرّس فى قراءة بعض العبارات مثل: «مصر تسير على الطريق الصحيح سياسياً واقتصادياً» أو «الحكومة مسئولة وحدها عن مشكلة القمامة التى تملأ الشوارع»، أو «لا بد من منع الجماهير من مشاهدة المباريات لأنهم يحدثون شغباً شديداً».
مع كل عبارة تُقال، على الطفل أن يختار إما أن يوافق أو يرفض العبارة التى سمعها. لو وافق على العبارة التى سمعها فإنه سيظل يتحرك فى نفس الدائرة التى يسير فيها. ولو لم يوافق على العبارة فإنه يغير الدائرة ليلحق بالدائرة الأخرى التى تسير فى الاتجاه المقابل (أى الدائرة التى تسير عكس عقارب الساعة مثلاً).
ويظل كل طفل يغير الدائرة التى ينتمى إليها عدة مرات مع كل عبارة يختلف معها. وهنا سيكتشف عدة أمور:
أولاً هو اتخذ قراره بنفسه، ولم يملِه عليه أحد. ثانياً، هو غير الدائرة التى يتحرك فيها عدة مرات اتفاقاً واختلافاً مع زملائه ولم يجد هو أو هم أى مشكلة فى أن يكونوا متفقين فى بعض الأمور وأن يكونوا مختلفين فى بعض الأمور. ثالثاً، تباين المواقف بين البشر ليس جريمة بل هو من سنن الله فى خلقه، والمسألة لا تستدعى أى صراعات أو حب أو كراهية.
تعالوا لما هو أعمق من ذلك.
ممكن أن نترك للأطفال أو الشباب عبارة مثيرة للجدل مثل: «لا بد أن تتخذ الحكومة إجراءات مشددة من أجل الحد من الزيادة السكانية الرهيبة»، يترك للأطفال أو الشباب وقت ليناقشوا العبارة دون تدخل من المدرس إلا توضيح أهمية هذا الموضوع.
ثم كل واحد من الشباب يخرج ورقة ويرسم عليها خطاً أفقياً ويضع عليها ثلاثة أرقام: «1» فى أول الخط، و«2» فى منتصف الخط، و«3» فى نهاية الخط.
من يوافقون على العبارة المقالة بشأن تام يختار رقم 1، والمعترضون بشدة يختارون 3، ومن لهم موقف متحفظ ومختلف عن الموقفين الآخرين يختارون 2. عند هذه اللحظة لا ينبغى أن يسمح للشباب أو الأطفال بالنقاش حتى لا يؤثر أصحاب الشخصية الأقوى على أصحاب الشخصية الأضعف.
يتم وضع ثلاث لافتات على السبورة أو على الأرض ويطلب من كل واحد من الشباب أو الأطفال أن يذهب إلى اللافتة التى تحمل الرقم الذى اختاره بعد أن يسلم الورقة التى كتب فيها موقفه إلى المدرس. وهنا لا بد أن يلتزم بما اختار وألا تحكمه غريزة القطيع (herd instinct) أى يتحرك مع ما تقوله الأغلبية بلا تفكير (وهذا خطر عظيم).
وفى كل مجموعة، يقوم الطلاب أو الشباب بمناقشة الأسباب التى جعلتهم يتبنون وجهة النظر المشتركة بينهم. هذا النقاش هام للغاية لأنهم يتعلمون من بعضهم البعض، يتعاونون، يتفقون ويختلفون، ويعملون فى فريق عمل، ويكتسبون مزيداً من الثقة فى أنفسهم.
عادة يطلب من كل مجموعة أن يخرج منها أحد أعضائها ليشرح وجهة نظر أعضائها. ويكون الاختيار وفقاً لمعيار عشوائى تماماً مثل الشخص الذى عنده أصغر أخ أو أخت أو الشخص الذى لديه أغمق بنطلون.. إلخ حتى لا يسيطر شخص واحد على المجموعة وحتى يتحقق الاستماع الفعال لأن أياً منهم لا يعرف من الذى سيتحدث.
ومع كل مجموعة تقدم وجهة نظرها، ثم تقوم كل مجموعة بتوجيه اقتراحات أو انتقادات، للمجموعة الأخرى، حتى يكون كلامها أكثر عقلانية، ولا يكون الهجوم على أشخاص المجموعة الأخرى وإنما النقاش منصب على الموضوع.
ويكون من الوارد أن يقوم بعض الأعضاء بتغيير وجهة نظرهم ومعها يغيرون مجموعة إلى أخرى، وأن يوضحوا الأسباب التى دفعتهم لذلك.
لا يوجد بالضرورة توجه صحيح وآخر خطأ، ما هو موجود بالضرورة أن أبناءنا يمكن أن يتعاونوا ويتعلموا، ويتناقشوا، ويختلفوا، ويتفقوا، ويتطوروا، ويتغيروا دون أن يكون عندهم بالضرورة «أجندات خفية» أو يكونوا متلونين أو مداهنين أو منافقين أو عملاء أو خونة.
فائدة مثل هذه التمرينات هائلة ويتبنى شخصية قادرة على التفرقة بين مواضع الاتفاق والاختلاف مع الآخرين، وتكون هى الثقافة التى تقبل فى النهاية بأن يهزم فريقى فى الكرة دون أن أقوم بتدمير المدرج، أو أن يختلف معى شخص فى وجهة النظر دون أن أصفه بأشنع الصفات، وأن يكون جزءاً من فريق وأكون مشاركاً فى نجاحه حتى وإن لم أتفق مع كل ما يقال فيه.
إما هذا، وإما نحن ضائعون.. ضائعون.. وأستعير عنوان كتاب للزكى النجيب محمود، رحمة الله عليه: «مجتمع جديد أو الكارثة».
نقلا عن جريدة الوطن