معتز بالله عبدالفتاح
من بنجلاديش إلى تايلاند، من أوكرانيا إلى البوسنة، من البرازيل إلى فنزويلا. ولا ننسى منطقتنا العربية والشرق أوسطية: من العراق إلى سوريا إلى تركيا إلى لبنان إلى ليبيا إلى تونس إلى اليمن، بل إن نذر التمرد وصلت إلى دولة مثل السويد التى كانت تعتبر نموذجاً يتغنى به الكثيرون.
ولا ننسى كذلك أن مصر تعرف نصيبها من الإضرابات والاعتصامات، وحديثاً متواتراً عن احتقان شعبى يأمل البعض، ويحذر آخرون، من أن يكون مقدمة هزة عنيفة تغير بنية النظام السياسى المصرى مرة أخرى. ولا ننسى أن دولة مثل أوكرانيا شهدت ثورة ديمقراطية بالفعل فى 2004، وبعد عشر سنوات تبدأ من أول وجديد، وأن دولة مثل تايلاند شهدت فى ثمانين عاماً 18 حادثة لتدخل الجيش فى الحياة السياسية لحل البرلمان أو وقف العمل بالدستور سواء بناء على مطلب شعبى أو لانقلاب من بعض قياداته على السلطة القائمة. وقد يكون من المفيد أن يلقى هذا المقال الضوء على أصل المسألة حتى نفهم كيف ولماذا تنجح بعض الاحتجاجات فى أن تتصاعد وصولاً لتهديد النظام السياسى القائم أو أن تظل مطالب فئوية لا تحمل دلالات سياسية طويلة المدى.
لصامويل هانتنجتون، عالم السياسة الأمريكى الشهير، معادلة تقول إن عدم الاستقرار السياسى (وفى قمته الثورات السياسية) يساوى المطالب السياسية مقسومة على المؤسسات السياسية. وبعيداً عن التعقيدات الأكاديمية، فإن الفكرة ببساطة هى أن عدم الاستقرار السياسى يزيد كلما زادت المطالب السياسية وضعفت قدرة المؤسسات السياسية على الاستجابة الفاعلة لها. إذن، نحن أمام مصطلحين أساسيين: المطالب السياسية والمؤسسات السياسية. أما المطالب السياسية فهى ليست بعيدة عن مفهوم الطلب على السلع والخدمات فى الاقتصاد.
مطالب المجتمع من الدولة تشمل فى حدودها الدنيا المطالب الفئوية والخدمية المحدودة والتى تصنف على أنها «سياسة دنيا» (low politics) لأنها تهدف لتحقيق مطالب محدودة جغرافياً أو مهنياً ولا ترتقى إلى مطالب السياسة العليا (high politics) والتى تستهدف تغيير القواعد السياسية الحاكمة للمجتمع أو تغيير مؤسسات الدولة وإسقاط الحكومة أو نظام الحكم. وعليه، كلما ارتفعت المطالب سواء الفئوية أو السياسية على نحو لا يمكن لمؤسسات الدولة أن تستوعبها أو تردعها فإن عدم الاستقرار السياسى يتزايد بما قد يفضى إلى الثورة والانفجار. ولكن ما المقصود بالمؤسسات السياسية؟
هذه المؤسسات تنقسم إلى ثلاثة أنواع أساسية: فهناك المؤسسات الخدمية مثل المدارس والمستشفيات والمحاكم والجمعيات الاستهلاكية وغيرها، والملاحظ أنها تزداد ترهلاً فى مصر فى مواجهة موجات متزايدة من المطالب نتيجة زيادة عدد السكان.
وهناك ثانياً المؤسسات التمثيلية التى تقوم بمهام التعبير عن مطالب المواطنين والرقابة على أعمال الحكومة وتداول السلطة على نحو يفضى إلى التغيير فى القواعد الحاكمة لـ «من يحصل على ماذا متى وأين وكيف» وللأسف فالأحزاب وغياب البرلمان وغياب المجالس المحلية يعنى خللاً لا يقل فى خطورته عن الخلل فى المؤسسات الخدمية.
وهناك ثالثاً المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الشرطة ومعها الجهاز القضائى ومعاونة وحدات من الجيش لهم. وهى كلها جهات تعانى الكثير وأمامها من التحديات الكثير. إذن هناك علاقة طردية (أى زيادة متوازية) بين زيادة المطالب السياسية وعدم الاستقرار السياسى إذا لم تنجح مؤسسات الدولة المختلفة فى استيعابها إما بتلبيتها (المؤسسات الخدمية)، أو التعبير عنها (المؤسسات التمثيلية) أو بقمعها (المؤسسات الأمنية).
وما يبدو واضحاً أن هناك نزعة متزايدة عالمياً نحو المزيد من الاعتصامات والإضرابات، وسيزيد الأمر تعقيداً فى المجتمعات المنقسمة عرقياً ودينياً وأيديولوجياً لأن المطالب لن تكون مؤسسية وإنما تكون عادة انفصالية.
هذه الفترة فى تاريخ العالم أقرب ما تكون إلى مقدمة لسلسلة أحداث كبيرة مقبلة ليس على مستوى الوطن فقط، ولكن على مستوى العالم أيضاً.
نقلاً عن "الوطن"