معتز بالله عبد الفتاح
فى كتابه «قصة الحضارة» يقول «ويل ديورانت»: «الحضارة تنشأ مع النظام والانضباط، وتزدهر مع الحرية والإبداع، وتنهار مع الفوضى والفساد».
وهناك من يريد أن تنهار مصر بفعل الفوضى والفساد ويضيفون إليهما الإرهاب. وهناك من يريد للماكينة أن «تتصلح» دون أن يملك أدوات تصليحها، وهو لا يدرى أنه ربما يضيف للفوضى فوضى وللفساد فساداً. وهناك من يريد النظام والانضباط لكنه لا يعرف أن عليه كذلك أن يوفر بيئة لإصلاح الماكينة بما يسمح بالحرية والازدهار.
جهاز الكمبيوتر عبارة عن ماكينة لها نظام تشغيل يتم تحميله ببرامج.
الأصل فى الأمور أننا كمستخدمين هدفنا البرامج التى نستخدمها فى كتابة ملاحظاتنا أو عمل حساباتنا أو تصفح الإنترنت، ولكن ما لا يتم الواجب إلا به يتحول إلى واجب، لذا يكون من الضرورى وجود نظام التشغيل الذى يجعل مكونات الماكينة تتفاعل مع بعضها البعض، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا بعد وجود ماكينة الكمبيوتر كجهاز مادى ملموس.
نعم، الهدف فى النهاية هو الإنسان بحقوقه كاملة وحرياته كاملة، ولكن هذا الإنسان لا يستطيع أن يحصل على حقوقه إلا من خلال حكم القانون المنضب بإرادة الناس وهو ما نسميه الديمقراطية أو نظام التشغيل، وكلاهما لا بد أن يوجد فى دولة، أى ماكينة الدولة. ولا يكون حسن عمل البرامج التى نستخدمها فى الكتابة أو الحسابات عبر تدمير الماكينة، أى الدولة.
كتبت من قبل عن ثلاثية وحدة الدولة والمؤسسات الديمقراطية والحقوق والحريات. وتحدثت عن «هوبز»، وهو فيلسوف تنسب إليه فكرة «الدولة التنين»، أى الدولة القمعية التى يبررها شىء واحد، هو أن البديل هو «حرب الجميع ضد الجميع». لو كان الكابتن «هوبز» حياً لأشار إلى الصومال وأفغانستان ورواندا والبوسنة والهرسك، وربما لضحك وقال: «أنا صح، فى الأصل تكون الدولة لأنها هى الحاضنة والمحافظة على حقوق الأفراد حتى لو اضطر هؤلاء الأفراد إلى التنازل عن كل حقوقهم مقابل الحق فى الأمن والحياة، حتى إن كانت حياة بلا حقوق سياسية».
إذن عند «هوبز» الدولة الطاغية مبررة إذا ما كان البشر غير قادرين على العيش معاً بلا طغيان الدولة. وبالمناسبة الرجل لم يكن يحلم حين كتب هذا الكلام، فقد عاش أياماً «أسود من قرن الخروب» فى القرن السابع عشر فى إنجلترا، حيث كانت الفوضى والقتل تعم البلاد. وبنص كلامه: «دون دولة قوية ومستقرة.. لا يكون فى هذه الظروف مجال لقيام المعرفة ولا اعتبار للوقت، ولا فنون، ولا أدب، ولا مجتمع؛ والأسوأ من ذلك كله انتشار الخوف المستمر ومخاطر التعرّض للعنف المميت؛ وتكون حياة الإنسان حياة عزلة، وفقر، ورداءة، ووحشية، وتكون قصيرة»، الجملة الأخيرة مهمة.
إذن عند الكابتن «هوبز»: هناك علاقة سببية ومطردة بين الامتثال للسلطة السياسية والسلم الاجتماعى. لكن نلاحظ أن البشرية ما كان لها أن تتوقف عند «هوبز
لذا جاء فى أعقابه من رفض أن يكون الحق الوحيد الذى تضمنه الدولة هو حق الأمن والبقاء على قيد الحياة، وإنما لا بد من حقوق أخرى مثل الحق فى الملكية والتعبير عن الرأى والاجتماع والمشاركة السياسية حتى لو كانت فى مرحلة أولى محدودة بالذكور دون النساء والبيض دون الملونين. وبطل هذا الجزء هو الكابتن «لوك»، وهو الذى أيّد ثورة مهمة فى إنجلترا اسمها الثورة المجيدة سنة 1688 (زى ثورة 25 يناير بس ما كانش فيه مجلس عسكرى)، المهم أنها انتهت بما أراده الكابتن «لوك» وفريق الأشبال الذى كان يدربه، وهو أن تكون هناك «دولة» لكنها ليست «طاغية»، يعنى نأخذ من الكابتن «هوبز» فكرة الدولة القوية لكنها ليست مستبدة، نريد أن نحافظ على قوتها ولكن نريد الحد من استبدادها. وبالمناسبة هذا الرجل «لوك» له دور حاسم فى تاريخ الولايات المتحدة، حين جلس الآباء المؤسسون لكتابة دستور أمريكا، كانوا كثيرى الإشارة إليه. ولكن لا بد أيضاً أن نتذكر أن الكابتن «هوبز» كان دوره حاسماً حين حاولت ولايات الجنوب أن تستقل عن ولايات الشمال الأمريكية. «هوبز» هو فيلسوف الحفاظ على الدولة، و«لوك» هو فيلسوف بناء الدولة الديمقراطية. أهم أسلحة «هوبز» هى الحاكم القوى، والجيش وال
طة، وأهم أسلحة «لوك» هى الحاكم القوى أيضاً ولكن معه البرلمان والأحزاب.
ولكن نظام التشغيل الذى اسمه الديمقراطية ليس مفيداً إلا إذا ارتبط بتوفير الحقوق والحريات لأكبر عدد ممكن من المواطنين. لذا تطلب الأمر بعد «هوبز» و«لوك» أن يكون هناك الكابتن «جون ستيوارت ميل» زعيم الليبرالية (بمعنى التسامح السياسى والدينى والفكرى). جاء هذا الجرل بعد حوالى قرن من «لوك» ليقول للإنجليز والعالم فى كتابه الشهير: بعد الدولة وبعد المؤسسات الديمقراطية نحن بحاجة إلى الحقوق والحريات، وهذا مضمون كتابه الشهير «On Liberty» الذى أعطى فيه الحق لكل الأفراد، رجالاً ونساءً، أحراراً وعبيداً، أغنياء وفقراء، فى الاعتقاد وفى التعبير وفى المشاركة السياسية. كما أن كتابه عن «مبادئ الاقتصاد السياسى» هى التى ألزمت الدولة بأن تتدخل فى عملية توزيع عوائد الإنتاج بما يضمن عدالته وبما يضمن عدم إساءة استغلال العمال، وذلك من خلال فرض حد أقصى من ساعات العمل وحد أدنى من الأجر، وإعانات البطالة والضرائب المتصاعدة، واضعاً بذلك أساس ما يُسمى دولة الرفاه فى الغرب. ومن هنا فإن فضل الليبرالية على الديمقراطية أن جعلت عوائد الديمقراطية أشمل، وفضل الليبرالية على الرأسمالية أن ألحقت بها دولة الرفاه حتى يستفيد الجميع من منجزات المشروع الخاص والإبداع الشخصى. ومن هنا فإن قضية العدالة الاجتماعية أصبحت، بفضل الليبرالية، واحدة من القيم الغربية الأساسية.
راجى عفو الخلاق «مُع مُع الحلاق» يقول لك: لا تسألنى عن «ميل» (أى الحقوق والحريات) قبل «لوك» (أى المؤسسات الديمقراطية)، ولا تسألنى عن «لوك» (أى المؤسسات الديمقراطية) قبل «هوبز» (أى وجود دولة قوية مستقرة قادرة على أن تبسط سلطانها وقانونها على بلدها).
بعبارة أخرى، لازم يكون عندى جهاز كمبيوتر (دولة) قبل ما أفكر فى نظام التشغيل (الديمقراطية) وقبل ما أفكر فى نوعية البرامج التى أحملها عليه (الحقوق والحريات).
طبعاً البعض سيقول: نريد الحقوق والحريات، وبالتالى لا بد من هدم الدولة. المشكلة أننى لا أظن أن القدرات البشرية التى رأيتها فى مصر منذ أن عُدت إليها تقول لى إنها قادرة على بناء الدولة إن هُدمت، ولا محيط مصر الإقليمى سيسمح بهذا. والأهم عندى أنه حتى الدول الاسكندنافية الأكثر احتراماً للحقوق والحريات خاضت حروباً كثيرة وكثيفة فى ما بينها ومع المحتل الأجنبى حتى تبدأ من نقطة «الدولة» ثم «الديمقراطية» ثم «الحقوق والحريات». وقد جرّبنا فى مصر لمدة عامين ونصف العام مطالب بالحقوق والحريات والدولة لم تكن موجودة، فزاد الناس فقراً وإفقاراً من ناحية، وتحولت الحرية إلى فوضى.
الدكتور مرسى جاء ليحافظ على الدولة، فنال منها، بل أثبت قدرة واضحة على عدم احترام نظام التشغيل (الديمقراطية)، بل أصبح مصدر خطر على «اليوزرس» أنفسهم (يعنى المستخدمين لا مؤاخذة).
إذن الأولوية الآن للحفاظ على «مصر».
الحفاظ على مصر الدولة بأرضها وواديها ونيلها ودلتاها وسينائها وحلايب وشلاتين، والحفاظ على مصر الشعب ومصر المجتمع بكل أطيافها، مسلمين ومسيحيين، كبارها وصغارها، دينييها وعلمانييها، والحفاظ على مصر المؤسسات بقضائها وجيشها وشرطتها وأزهرها وكنائسها ومؤسساتها المنتخبة مع الإصلاح الفعال لها. والحفاظ على الإنسان المصرى وإعداده لمواجهة الحرب على الجهل والفقر والمرض والظلم والإرهاب والإنجاب بلا حساب. وفى حالتنا، هذا طريق إجبارى، والفشل فيه ليس بديلاً، إلا إذا كان الثمن ضياع مصر.