معتز بالله عبدالفتاح
فى نظرية الاحتمالات، استبعاد البدائل لا يكون بالتمنى أو بالتخوّف. وفى نظرية التخطيط الاستراتيجى، علينا أن نستعد لكل الاحتمالات، بدءاً بأسوئها.
طيب أولاً ما الذى قد يجعل المشير السيسى لا يترشح بعد هذا الزخم الشعبى؟
سأقدم إجابة قد تبدو سطحية، لكنها فى تقديرى الإجابة الصحيحة: الفلوس، أى بعبارة أخرى التمويل.
القضية ليست قضية مشاعر فياضة مع الرجل أو ضده، القضية فى القدرة على تحويل الأفكار الكبرى إلى مشروعات كبرى. وكما قلت من قبل أثناء تحليل برامج مرشحى الرئاسة إنهم جميعاً يركزون على الجانب الأيسر من الميزانية، وهو جانب الإنفاق. أين الجانب الأيمن من الميزانية، حيث توجد الموارد ومصادر التمويل؟
المشير السيسى لن يترشح فى تقديرى إلا إذا أمن مصادر تمويل خارجى تصل إلى 40 مليار دولار فى السنة الأولى لحكمه ورقم مماثل فى كل سنة من السنوات اللاحقة. المصدر الرئيسى لهذه الأموال غالباً سيكون دول الخليج.
هذا فى مصلحتهم، وفى مصلحتنا، لو كانوا يفقهون. ويعلم المشير السيسى أن الجزء الأكبر من مؤيديه يؤيدونه حتى ينجح فى حل معضلات مصر الأمنية والاقتصادية والسياسية.
وتعالوا نطير سريعاً إلى القاعة الكبرى فى جامعة هارفارد فى يونيو 1947، حين تحدث وزير الخارجية الأمريكى جورج مارشال عن خطة تمويل تحت عنوان: «برنامج الإنعاش الأوروبى» أو ما عُرف إعلامياً باسم «خطة مارشال»، والتى كانت عبارة عن خطة مساعدات مقدارها 15 مليار دولار لمدة أربع سنوات، بدءاً من 1948 حتى تقف دول أوروبا الغربية على قدميها اقتصادياً مرة أخرى بعد أن دمّرتها الحرب العالمية الثانية.
وللعلم هذا الرقم فى 1948 يساوى الآن 150 مليار دولار. وهو نفس الرقم الذى تحتاج إليه مصر خلال السنوات الأربع القادمة. وبالمناسبة هذا الرقم شكل آنذاك 6 بالمائة من الناتج القومى الإجمالى للولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة كانت لديها رؤية استراتيجية تقول إن دول أوروبا الغربية كانت ستغرق فى الشيوعية لو تُركت بلا دعم مادى ينقذها من عثرتها مثلما سقطت عدة دول فى النازية والفاشية والعسكرتارية بعد الحرب العالمية الأولى (أتحدث عن ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا). وإما أن تتحول هذه الدول إلى أعداء لها وإما أن تتحول إلى حائط صد ضد الشيوعية.
ومن هنا كانت خطة مارشال، التى أسهم فى التخطيط لها أحد أهم بيوت الخبرة ومراكز التفكير الأمريكية (Brookings Institute).
ما يحتاجه المشير السيسى هو ضمان هذا القدر من التمويل حتى تقوم مصر من عثرتها، وحتى لا تعود مصر مرة أخرى إلى غياهب من «إما يحكموننا وإما يحرقوننا».
هل سيكون هناك إدراك مشترك لهذه النوعية من المخاطر عند الأشقاء الخليجيين؟
الإمكانات موجودة؛ تشير التقارير إلى أن الاحتياطى النقدى السعودى بلغ 727 مليار دولار العام الماضى، وهو أعلى مستوى له فى تاريخ المملكة. ونظيره فى الإمارات العربية المتحدة يعادل حوالى 60 مليار دولار، وفى الكويت حوالى 30 مليار دولار. وكمعلومة الاحتياطى النقدى المصرى يقل عن 17 مليار دولار فى مصر الآن.
فى تقديرى المتواضع أن قضية التمويل هى المعضلة الأكبر فى مصر الآن. ومحاولة حلب بقرة لا يوجد فيها لبن سيتسبب فى قتلها.
هذا فى ما يتعلق بقضية التمويل، وظنى أنها المعضلة الأكبر فى تحديد ترشح المشير السيسى أم لا؛ وقد سمعت منه شخصياً عبارة: «القضاء على الفساد فى مصر لن يحل مشكلة العوز والفقر». إذن نحن بحاجة إلى دعم خارجى كبير لحين تعود البلاد تقف على قدميها مرة أخرى.
إذن: خطة عمل محكمة داخلياً مع تمويل خارجى معقول، سيكون هناك أمل كبير.
طيب، ماذا لو لم يترشح المشير السيسى؟
هناك احتمالان باقيان:
أولاً، أن يكرر نموذج «بوتين - ميدفيديف» بأن يكون الرجل القوى الذى يتحكم، حتى لو جزئياً، دون أن يحكم، بحيث يكون الرئيس الذى يأتى، على وفاق مسبق معه، بما يضمن له استمراره فى منصبه كوزير للدفاع وبعد مدة الأربع سنوات يكون لكل حادث حديث.
والشخص الأمثل فى هذه الحالة قد يكون إما عسكرياً سابقاً (اللواء مراد موافى) أو سياسياً مخضرماً (السيد عمرو موسى)، وأظن أن الرجلين على علاقة إنسانية قوية بالمشير السيسى. ومن معرفتى المسبقة بالرجلين، هما مستعدان لخدمة مصر فى أى موقع دون حسابات شخصية معقدة.
ولكن هذا الاحتمال غير مضمون العواقب. المشير السيسى له قاعدة مؤيدين، لو نزل الانتخابات فستتحرك معه، ولكن لو نزل شخص آخر، حتى لو بدعم ضمنى منه، فالبدائل ستفتح على اتساعها. ولن يكون من الصواب أن يعلن القائد العام للقوات المسلحة، ممثلاً عن القوات المسلحة، دعمه لشخص دون آخر. هذه مؤسسة ينبغى أن تظل على الحياد قانونياً وسياسياً فى كل انتخابات تجرى على أرض مصر: من أجل مصر ومن أجل القوات المسلحة.
كما أن نزول عسكريين سابقين آخرين للترشح سيفتح كل الاحتمالات. ولنفكر لو وجدنا منافسة انتخابية بين الفريق شفيق والفريق عنان واللواء مراد موافى مثلاً. ولديك فى المقابل عدد من المرشحين المدنيين، على رأسهم السيد حمدين صباحى. هنا كل الاحتمالات ستبرز من جديد. وظنى أن المزاج العام عند جموع المصريين، غير الثوريين، أنهم سيختارون الرجل الأقوى من بين المرشحين العسكريين، أكثر من ثقتهم فى أى شخص مدنى الآن. وكما قال «وينستون تشرشل»: «فى أوقات الأزمات الوجودية، الناس تميل لدعم القوى حتى لو كان على خطأ، وليس لدعم الضعيف حتى لو كان على صواب».
ثانياً، احتمال أن يأتى رئيس على غير اتفاق أو وفاق مع المشير السيسى؛ فمن وجهة نظر المشير السيسى أنه لو ظل فى منصبه كوزير للدفاع وقرر ألا يترشح للرئاسة، فهناك احتمال قائم بأن يشرع الرئيس الجديد فى أن يعزله بمنطق أن هذا الرجل أسهم فى عزل الرئيس السابق عليه. ولا أعرف مرشحاً رئاسياً مطروحاً الآن يمكن له أن يقبل بارتياح وجود الفريق السيسى فى منصبه كقائد عام للقوات المسلحة، باستثناء عمرو موسى ومراد موافى (بدرجة أقل). وكما نعلم فإن الدستور لم يضع قيداً على رئيس الجمهورية فى عزل وزير الدفاع، وإنما القيد هو موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير دفاع جديد.
وكل هذه البدائل ليست مضمونة، ككل شىء فى مصر، لأن الحقائق فى مصر متغيّرة بمعدلات أعلى من معدلات قدرة أى طرف على التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
وتزداد الصورة تعقيداً حينما يتداخل المشهد الإقليمى والدولى مع المشهد المحلى، حيث أصبحت مصر ساحة لصراع إقليمى بين قوى الاستقطاب العربى ممن يدّعون دعماً للشرعية الإخوانية ومن يدّعون دعماً للاستقرار الوطنى بعد التخلص من الإخوان. وهنا قد تنفتح خزائن كل طرف لإعادة تشكيل مصر على النحو الذى يتفق مع مصالحه.
أعتقد أن ما سينقذ مصر ليس أن يرشح الفريق السيسى أو أى من الأسماء المطروحة نفسه فقط، وإنما أن يتقدم المرشح ومعه فريق عمل من تيارات أيديولوجية مختلفة بما يحقق المعادلة الصعبة التى تكرر الحديث عنها كثيراً فى هذا العمود: أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس إدارة الوطن والعضو المنتدب لإدارته. وهذا الكلام له أهميته تحديداً، بما أن الانتخابات الرئاسية أولاً، وسيكون رئيس الجمهورية المنتخب مطالباً بأن يُشرّع، فى غيبة مجلس النواب، تلك التشريعات التى ستنظم انتخابات مجلس النواب وتقسيم الدوائر.
من يترشح للمنصب عليه ألا يعتمد على تاريخه أو أمجاده وإنما أن يكون معه برنامج عمل يعالج مشاكل مصر التاريخية: الجهل والفقر والمرض والظلم والاحتقان. بالإضافة إلى ذلك أن يكون معه فريق عمل قادر على أن يحول هذا البرنامج إلى إجراءات على أرض الواقع.
وفى كل الأحوال، على الشعب المصرى ألا يعتمد على الولاء الشخصى والمطلق لأى رئيس يأتى إلى السلطة وإنما يكون الولاء وظيفياً ومشروطاً؛ أى سيكون مشروطاً بحسن أداء الرئيس لمهامه ولوظيفته؛ فلا مجال للحديث مرة أخرى عن البيعة لشخص ما أو تقبيل الأيادى أو العشق الشخصى لفرد بذاته.
نقلاً عن "الوطن"