معتز بالله عبد الفتاح
بذلت جهداً فى أن أتفهم أبعاد وأسباب الجدل الدائر بين القانونيين المصريين بشأن قانون الانتخابات الرئاسية. وعليه استنتجت عدة أمور أطرحها على سبيل «محاولة الفهم».
أولاً، يبدو لى أن المدرسة القانونية المصرية تميل إلى تغليب روح النص (بما قد تحمله من اعتبارات سياسية وظروف مجتمعية) على ألفاظ النص، بمعنى أنها لا تقف أمام النص كلمة بكلمة إنما هى تفهم التوجه العام للنص وتسعى لتطبيقه فى ضوء الظروف المحيطة بما يعنى وجود سلطة تقديرية كبيرة للقضاة.
ثانياً، يبدو لى كذلك أنه كما أن هذه المدرسة تقوم على التعامل مع النصوص الدستورية التاريخية كجزء من النظام العام ومن التعبير عن الإرادة العامة للمصريين على امتداد تاريخهم، وبالتالى نادراً ما تلجأ إلى فكرة أن نصاً استنسخ نصاً إلا إذا كان هذا واضحاً تماماً من الألفاظ وواضحاً تماماً من توجه الإرادة إلى ذلك.
ثالثاً، بعض الذين يقفون أمام كلمة بذاتها هنا أو هناك سواء فى الدستور أو فى القانون هم يراهنون على جزء من المشهد وليس كل المشهد لأن تفسير هذه الكلمة أو تلك ليس مسألة بديهية إنما هى موضع اجتهاد المجتهدين، وقد يقبل آحاد الناس هذا الاجتهاد أو يختلفون معه.
سأعطى مثالاً من قضية خلافية أخرى لكنها توضح ما أقصد. حكمت المحكمة العليا برفض بناء دور عبادة بهائية (محافل) فى عام 1975، ويقيناً أن المحكمة فى 1975 كانت ملزمة بدستور البلاد وهو دستور 1971 الذى لم يكن يضع قيداً على الحق فى بناء دور العبادة بأنها تكون فقط لـ«أتباع الديانات السماوية»، ولكنها فعّلت نصاً قديماً كان قد ورد فى دستور 1923 وأسقطه دستور 1971. يقول جزء من حكم المحكمة:
«ومن حيث إنه يبين من استقصاء النصوص الخاصة بحرية العقيدة فى الدساتير المصرية المتعاقبة أنها بدأت فى أصلها بالمادتين الثانية عشرة والثالثة عشرة من دستور سنة 1923 وكانت أولاهما تنص على أن حرية العقيدة مطلقة، وكانت الثانية تنص على أن تحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية فى الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافى الآداب.
وظل هذان النصان قائمين حتى ألغى دستور سنة 1923 وحل محله دستور سنة 1956 وهو أول دستور للثورة فأدمج النصين المذكورين فى نص واحد. ومن حيث إنه يستفاد مما تقدم أن المشرع قد التزم فى جميع الدساتير المصرية مبدأ حرية العقيدة وحرية إقامة الشعائر الدينية باعتبارهما من الأصول الدستورية الثابتة المستقرة. أما حرية إقامة الشعائر الدينية وممارستها فهى مقيدة بقيد أفصحت عنه الدساتير السابقة وأغفله الدستور القائم (أى دستور 1971) وهو «قيد عدم الإخلال بالنظام العام وعدم منافاة الآداب» ولا ريب أن إغفاله لا يعنى إسقاطه عمداً وإباحة إقامة الشعائر الدينية ولو كانت مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب. ذلك أن المشرع رأى أن هذا القيد غنى عن الإثبات والنص عليه صراحة باعتباره أمراً بديهياً وأصلاً دستورياً يتعين إعماله.. (لذا فإن) حرية القيام بشعائرها إنما هى الأديان المعترف بها وهى الأديان السماوية الثلاثة».
رابعاً، توسع القضاء الإدارى فى دوره وأصدر حكما بحل الحزب الوطنى بعد ثورة 25 يناير فى حين أن القانون لا يعطى هذا الحق للقضاء الإدارى. بل توسع القضاء الإدارى فى حل «كل المجالس المحلية» فى حين أن نص القانون يمنع تماماً حلها كلها دفعة واحدة فى مثال واضح لأن يكون القاضى أهم من القانون.
خامساً، إن صح هذا الكلام، إذن «تحصين» قرار لجنة الانتخابات فى قانون الرئاسة ليس حقيقة «تحصيناً» لأن القانون كله يمكن أن يخضع لعدم الدستورية حال قررت المحكمة الدستورية ذلك. إذن الرئيس القادم، فى كل الأحوال، تحت طائلة القضاة لأنهم فى كل الأحوال يملكون الطعن على دستورية القانون المنظم للانتخابات الرئاسية مثلما حدث مع القانون المنظم للانتخابات التشريعية فى 2012.
نقلاً عن "الوطن"