معتز بالله عبدالفتاح
التوجه الاستراتيجى لـ«البرنامج» هو السخرية السياسية «Political Satire»، البعض يرى أنها مجرد «متعة مستقاة من السياسة، مثلما يتذكر معظمنا الإشارات الذكية لكوميديانات كبار، لفشل الحكومة فى الوفاء بوعودها أو نزعتها للاستخفاف بعقول مواطنيها، على نحو ما شاهدنا فى مسرحيات مثل «تخاريف» و«الزعيم».
ولو صدقنا مدرسة «إيميل دور كايم» الاجتماعية، فإن هذه السخرية السياسية مفيدة لنظام الحكم، لأنها تُخرج الطاقة السلبية المتراكمة بين المواطنين، بل هى من أدوات بقائه واستمراره أحياناً، طالما لم يتحول هؤلاء الكوميديانات إلى زعماء سياسيين، بل هناك من وجد أن تحليل هذه النكات يعبر عن اتجاه الغضب فى المجتمع: هل هو تجاه رأس السلطة؟ أم أفراد أسرته؟ أم رئيس وزرائه؟ أم من وزراء بذاتهم؟ وفى المجتمعات الأكثر ديمقراطية، يكون تحليل مضمون الكاريكاتير والمسلسلات والنكات من أدوات هذه النظم لفهم المسكوت عنه فى عقول المواطنين.
كل ما سبق قصة، وما يفعله برنامج «البرنامج» قصة أخرى.
فى تقديرى فإن هذا البرنامج هو أكثر برامج مصر جدية، على عكس ما يحاول أن يروج له الدكتور باسم يوسف من أنه «بيهزر»، هذا البرنامج يقوم أسبوعياً بتشريح وتحليل جزء من فضائنا العام: سياسياً وإعلامياً. «البرنامج» يختلف عن الكوميديا الساخرة فى الأفلام والمسرحيات أو النكات، لأنه لا يختلق واقعاً افتراضياً، وإنما هو يرصد بمهارة، وليس بدقة بالضرورة، التناقضات التى نعيشها. «البرنامج» لا يختلق شخصية الديكتاتور فى مسرحية «الزعيم» أو مسرحية «تخاريف»، وإنما هو يأتى لك بالديكتاتور شخصياً أمامك ومعه الأدلة على ديكتاتوريته من كلامه وحركاته.
«البرنامج» لا يختلق شخصية الإنسان المنافق اللاهث وراء السلطة والمال مثلما جاءت فى أعمال إحسان عبدالقدوس أو وحيد حامد. «البرنامج» يأتى لك بهذا الشخص نفسه أمامك ومعه الأدلة والبراهين بالصوت والصورة.
«البرنامج» يبدأ ليقول إنه «برنامج غير موضوعى ومتحيز» وهذا حقيقى. «البرنامج» لا يتيح الفرصة فى نفس البرنامج لمن ينتقدهم أن يردوا على الانتقادات أو يوضحوا سياقات ما قالوه، وقد يكون لهم أسباب جيدة لتبنيهم المواقف التى تبنوها، لكننا لا نعرف ذلك داخل نفس البرنامج، وهو ما يجعلنا نرى بعضاً من مخاطره، فهو برنامج غير موضوعى فى سياق أصلاً غير موضوعى، وما يزيد الأمر صعوبة أنه برنامج «ناجح» ومقدمه «ماهر» وفريق عمله «شاطر» ويخاطب قطاعاً من الشباب «المتحفز».
المواطن الأمريكى، بحكم التعليم والثقافة واحترام القانون، حين يشاهد برامج شبيهة بـ«البرنامج» تسخر من الساسة والإعلاميين والفنانين والشخصيات العامة، يضحك، ولكنه فى النهاية يعتقد أن القانون أهم من القاضى، وأن الدولة أهم من الساسة، وأن المؤسسة أهم ممن يعملون فيها. فى حالتنا، توجد معضلة، المزيد من النقد الساخر، والمستحق فى كثير من الأحيان، فى السياق المصرى، الذى يعتبر «البرنامج» عنواناً للحقيقة وليس برنامجاً ساخراً متحيزاً وغير موضوعى كما يقول القائمون عليه، يضفى شرعية على رفض القانون، ورفض الدولة، ورفض المؤسسات لأنها مرتبطة بالقائمين عليها.
ولا يُفهم من كلامى بأى حال أننى ضد «البرنامج»، بل على العكس، هى دعوة لأن نأخذه بجدية أكثر، ولا نكتفى بتوجيه الشتائم والسباب لمقدمه أو لفريق عمله أو للتعامل معه على أنه جزء من مؤامرة على الشعب أو الدولة.
هذه رسالة احتجاج قوية من أهم قطاع فى مصر: قطاع الشباب الذى قدم الكثير ولم يكسب حتى القليل.
«باسم مش بيهزر ولا بيهزى ولا بيضيع وقت الناس ولا بيفشّ غل الشباب»، «باسم» بيعمل أكتر حاجة جادة فى مصر. هذا الجيل لن ينفع معه خطاب: «مصر أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا»، ولا الكلام العام عن «التقشف» و«التضحية» أو «جهاز الكفتة»، هذا الجيل عايز رؤية وخطة تكون بها «مصر زى الدنيا»، عايز حاجة مقنعة لأنه لن يقتنع بما هو غير مقنع، عايز حد يخرج له ويكلمه بالعقل. وارد جداً أن يرفض الشباب منطق المتحدث بل قد يشتمه، ولكن الشباب غالباً سيقدر أن أحداً حاول أن يتواصل معه حتى لو اختلف معه.
أياً ما كانت الجهة التى «شوّشت» على «البرنامج،» المسألة أعقد من هذا، اللى ما عندوش «برنامج» هو اللى عايز يوقف «البرنامج».
نقلاً عن "الوطن"