معتز بالله عبد الفتاح
وجدت نفسى فى حوار لم أتوقعه مع مجموعة من الشباب الذين يطلقون على أنفسهم لفظة «عقلانيين» ويرى بعضهم أنهم حقيقة «ملحدون»، وكان مضمون ما يقولون: إن بذرة التخلف الذى نعيشه موجودة فى أصل ديننا.
ومن هنا كان اجتهادى أن أوضح لهم أننا لسنا متخلفين بسبب ديننا، وإنما تخلفنا يأتى رغماً عن سمو مبادئه، وبسبب عدم قدرة المشتغلين بأمور الفقه على الخيال غير المتصادم مع عقائد الدين وأخلاقياته.
فـ«موسى»، عليه السلام، كان ثائراً ضد الاستبداد والطغيان والعنصرية التى مارسها الفراعنة، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) النبى والسياسى العظيم لم تعارضه «قريش» بسبب شعائر الإسلام من صلاة وصوم وحج وإنما بسبب ثورية الدين الجديد فى إحقاق الحق ومحاربة الظلم ومناهضة العبودية والانتصار لحقوق المرأة والمضطهدين.
لو كان الإسلام الذى جاء به الرسول الكريم محمد هو نوع الإسلام الشكلى الشعائرى المنافق الذى نعيشه والذى يهتم بأن يحرم سرقة «الدش» ولا يعبأ بتحريم سرقة الانتخابات، لما اعترض كفار «قريش».
إن جهداً أكبر مطلوباً من أهل الرأى والثقافة حتى تكون الديمقراطية أولوية فى حسابات المصريين ويرتفع الطلب عليها، ما دامت النخبة الحاكمة غير مستنيرة بما يكفى لأن تكون سبّاقة فى النهوض بشعبها، وهذا ما لا يتم إلا بتوضيح الخلل الذى حدث حينما وضع الرسول بذرة الحكم الرشيد، ولم يقم الأمراء والعلماء على رعايتها، فأثمرت نظم حكم كانت أقرب لما كان شائعاً عند الروم والفرس منه عن المبادئ العظيمة التى جاء بها الأب المؤسس لهذه الأمة، محمد رسول الله.
فإذا كان الحكم الرشيد يعنى احترام السلطة ورفض الطغيان فهذا ما قاله الرسول وفعله، فاحتراماً للسلطة قال: «إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم»، أى لا بد من احترام السلطة حتى وإن كانت مؤقتة بالسفر، لكن وجود الإمارة والحكم لا يعنى الاستبداد أو التجبر والطغيان، بدليل أن الله ذم كل مستبد لأنه: «كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» و«إِنَّهُ كَانَ عَالِيَاً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» و«وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» و«كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ». والحقيقة أن الفقه الإسلامى فى مجمله، مدفوعاً فى الأساس بالخوف من الفتنة والاقتتال، تجاوز عن هذه التفرقة الدقيقة، فساد فى عقول المسلمين منطق «مستبد.. لكن» كنوع من تبرير الاستبداد من أجل الاستقرار والأمن الداخلى. حتى وإن قبل الاستبداد مؤقتاً فى أوقات الفتن، وهو جزء من تاريخ حتى أكثر المجمعات الغربية ديمقراطية الآن، لكنه لا يمكن أن يتحول إلى منطق حياة.
لكننا أسأنا فى تاريخنا تشخيص المرض وأسأنا العلاج. والطريف أن أكثر من نصف تاريخ الخلافات والممالك الإسلامية لم يعرف الاستقرار والأمن المنشودين، فكان المنطق هو المزيد من الاستبداد وليس تغييراً نوعياً فى علاقة الدولة بالمجتمع من خلال بناء مؤسسات تمثيل سياسى تضمن احترام السلطة وتقرير الاستقرار والأمن على نحو ما انتهت إليه الأمور فى مجتمعات أخرى. ويكفى التذكير بمشهد مؤيدى «آل جور» ومؤيدى «بوش» فى انتخابات 2000 فى الولايات المتحدة، والتى وقف فيها الطرفان على جانبى الرصيف انتظاراً لحكم المحكمة الدستورية دون أن يطلق أى منهما طلقة رصاص واحدة، وذلك لأنهم يثقون فى أن للدولة مؤسسات عادلة ونافذة قادرة على أن تضع الأمور فى نصابها.
وإذا كان الحكم الرشيد يتضمن آلية محددة لصنع القرار السياسى حين تتعدد وجهات النظر، فهذا ما قرره الرسول الكريم استجابة لأمر قرآنى نزل فى أعقاب هزيمة عسكرية ترتبت على أنه شاور أصحابه فقرر كثيرون منهم أن الأَوْلى هو الخروج لجبل أحد، ومع ذلك كانت الهزيمة، ومع ذلك أيضاً لم يكن النهى بأن يقول الله سبحانه بألا تستشرهم لقصور فى فهمهم، ولكنه نزل بقوله: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ».
بل مدح القرآن الكريم ملكة سبأ حين طبقت هذا المبدأ حتى قبل أن تسلم مع سليمان لله رب العالمين، حين قالت لأهل مشورتها: «مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ»، بيد أن الشورى ستعنى تفاوتاً فى الآراء وربما تفضى إلى النزاع، فأقر الرسول (صلى الله عليه وسلم) مبدأ مهماً حين غلب فكرة قرار الأغلبية مخاطباً «أبا بكر» و«عمر» قائلاً: «لو اتفقتما على أمر ما خالفتكما» لأنهما اثنان وهو واحد، حتى لو كان نبياً.
ويضع الأساس الفلسفى لهذه الفكرة بقوله: «الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»، وهو ما فقهه عمر بن الخطاب حين أشار إلى مبدأ القرار بالأغلبية حين ترك ستة من الصحابة يتخيرون بالأغلبية واحداً منهم للحكم. وهو ما لم يستمر مع الأسف فى تاريخنا معظمه بما أفضى إلى فتن واقتتال بدءاً من «عثمان» وحتى يومنا هذا.
وإذا كان الحكم الرشيد يتضمن مبدأ التمثيل السياسى بآلياته المعروفة (أحزاب وانتخابات وبرلمانات)، فهذه منطقة لم يجتهد فيها الفقهاء المسلمون السابقون بما يكفى، فى حين أن المبدأ أقره الرسول الكريم حين كان يجمع مسلمى المدينة للتشاور فى أمر ما بقوله: «اختاروا نقباءكم»، أى انتقوا ممثليكم حتى يعبروا عن رؤاكم ومصالحكم فى شئون الحكم وسياسة المال.
والتمثيل السياسى يقتضى الاختيار بين مرشحين فى انتخابات عامة والتى وجد الكثيرون، ومنهم الإمام الخمينى مثلاً، أنه نوع من الشهادة العامة. والمسلم مأمور شرعاً ألا يكتم الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه بنص القرآن. ومن يشهد ينبغى أن يشهد بالحق حتى لا تكون شهادة زور لأن الحديث يقول: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى».
وإذا كان الحكم الرشيد له صيغ مختلفة ومتفاوتة فإننا مطالبون شرعاً بألا نكون كالحمار الذى يحمل أسفاراً بل ينبغى أن نسير فى الأرض بالنظر والتعلم والتبصر، حتى لا نقع فيما وقعت فيه أمم أخرى من أخطاء، وحتى تستبين طريق النهضة حتى لو احتجنا لأن ننقل عن الآخرين بعضاً مما ابتكروه.
والحقيقة أن الاجتهاد فى هذا الأمر يطول، لكن لا شك أن هذه المبادئ والممارسات الأولى لم يرعها الفقهاء حق رعايتها بالتنظير والتصميم والتأسيس، فانتهينا إلى عكس مبادئ الدين الذى ندين به.
وقصارى القول؛ فإن ما دمره الإسلام من قلاع الاستبداد تم بناؤه مرة أخرى بيد المنتسبين إليه، وها نحن مطالبون بأن نحاول تدميرها مرة أخرى عسانا ننجح.
ملحوظة: أرجو ألا يتصرف البعض مع «القرآن» وكأنه كتاب «الإخوان» وبالتالى كل من يستشهد به ويدافع عنه، فهو يعتقد أن «مرسى راجع والسيسى قاتل» ومثل هذه الترهات.
نقلا عن الوطن