معتز بالله عبدالفتاح
كتبت فى الماضى مقالاً عن صديق لى اسمه سيد وأنا سميته «سيد الإبيقورى» فأصبح معروفاً وسط شلة الأصدقاء بهذا الاسم. وكان عنوان المقال: «فاضية زى محمّلة». واستخدام العنوان العامى كان له ما يبرره لأن اللغة، كما يقول علماء الاجتماع، ليست محايدة وإنما هى تعكس ثقافة وطريقة تفكير من يستخدمونها.
سيّد له رؤية ترى أنه لا يوجد شىء فى الحياة يستحق العناء، ودائماً ما يقول لى متعاطفاً «والله انت تاعب نفسك على الفاضى: فاضية زى محملة، وطولها زى عرضها». لدرجة أن صديقاً له عرف أننى باحث فى الشئون السياسية فسألنى سؤالاً اقتضى نقاشاً تطرق للصراع بين الرأسمالية والاشتراكية؛ وأثناء احتدام النقاش، قال سيد متهكماً: «والله العلم بيأخر برضه». وبسؤاله لماذا تعتقد ذلك؟ فقال كلاماً من قبيل: «لأنكم بتضيعوا وقتكم ومصدّعين دماغكم بكلام لا يودّى ولا يجيب؛ رأسمالية إيه واشتراكية إيه، والله العظيم فاضية زى محملة، مصر هى مصر، وهتفضل طول عمرها زى ما هى كده، انتم بتضيعوا وقتكم على الفاضى».
ودائماً ما كنت أقول إن سيد فيلسوف دون أن يدرى؛ فهو يتبنى مقولات مدرسة فلسفية اسمها «الإبيقورية» ظهرت فى فترة انهيار الحضارة اليونانية وتلقفها الرومان فى مرحلة ما ثم تخلوا عنها حين حكمهم الإمبراطور «ماركوس أوراليوس» والذى اعتبرها واحدة من أسباب تراجع الرومان، ونجح أن يقيم على أنقاضها فلسفة تقوم على استنهاض الهمة ورفع الغمة، فانهارت الإبيقورية مع نهضة الحضارة الرومانية. هذه هى فلسفة مرتبطة أساساً بفترات الانهيار الحضارى. وجوهر هذه المدرسة أن السعادة تقوم على اللذة والمتعة الحسية والبعد عن الهموم قدر المستطاع؛ وكى تتحقق هذه السعادة الذاتية فلا بد من التكيف مع الواقع الذى نعيشه ورفض التصادم معه من خلال التحكم فى توقعاتنا بشأن الواقع المحيط بنا؛ بل إن أردت أن تكون سعيداً فلتخفض مستوى طموحاتك وأهدافك فى الحياة؛ فلو قررت زيارة صديق لك، فلا تتوقع أن يكون الشارع نظيفاً أو أنك ستصل فى موعدك وإنما أعط لنفسك جرعة صريحة من التشاؤم التى تخفض توقعاتك، فإن وصلت فى موعدك ولم تمر بمضايقات فهذه هى السعادة فى قمتها.
قلت لسيد سأكتب عنك عموداً حتى يستفيد الناس من رؤيتك الفلسفية.. فرد بلا أى اهتمام: «اكتب أو ما تكتبش، فاضية زى محملة.. هو فيه حد هيقرأ أصلاً».
هل سيد مخطئ؟
الحقيقة لا أدرى. أمام هذا الكم من الهزال الفكرى واللامنطق الذى يحكم الأحوال فى مصر، أكاد أجزم أننا فعلنا بأنفسنا أكثر مما لو قرر أعداؤنا فعله فينا، ولما نجحوا.
سيد بعد الثورة كان حزيناً وكان يعتقد أن «الثوار هيودوا البلد فى داهية، علشان مش فاهمين مصر والمصريين» وأقسم يميناً مغلظة أن «مصر مش هتقوم لها قومة تانى إلا إذا حاجة من عند ربنا تحصل» ولم يكن واضحاً ماهية هذه «الحاجة» ولما جاء الإخوان للحكم، اكتشف أن «فاضية فى الحالة دى مش زى محملة».
ومع التطورات الأخيرة، بدأ الأمل يدب مرة أخرى عنده اعتقاداً منه أن الدولة رجعت تانى.
هو يذكرنى بمقولة أن مصر هى الحضارة التى اخترعت فكرة الإله (وما يحمله من بعد روحى)، والجيش (بما يحمله من معنى حماية الدولة والمكانة فى المحيط الإقليمى)، والسجن (بما يحمله من عدل أحياناً وبطش الدولة أحياناً أخرى).
«سيد» يرى نفسه ممن ينجون بعقولهم من السيرك الذى نعيشه بأن يبتعد عن الكلام فى السياسة لأنه اكتشف مرة أخرى أن «فاضية زى محملة».
"الوطن"