معتز بالله عبد الفتاح
ؤعادة ما يقال إن السلطة القضائية هى أضعف السلطات الثلاث من ناحية حيازتها أدوات «القهر المادى» فهى لا تملك جيشاً أو شرطة، وهى من حيث عدد القضاة مقارنة بالسلطتين الأخريين، هى يقيناً الأقل عدداً. ولكن السلطة القضائية تملك ما هو أقوى من ذلك: تملك احترام الناس لها، وتطلُّع الضعفاء لأن تنتصر لهم، وسعى الخصوم لأن تفصل جهة تتمتع بالحيدة والنزاهة والتجرد بينهم.
فصل القضاء بين المتخاصمين بحيدة ونزاهة وتجرد أمر يتطلع له آحاد الناس، وينطبق حتى على مؤسسات الدولة، وهذا هو ما يجعل الناس فى بعض الدول حين تحدث بينهم خصومة يلجأون للبنادق والقنابل والاقتتال، وفى دول أخرى يلجأون للشرطة وللمحاكم والقضاة.
فى بعض الدول يقال: المحامى الجيد يعرف القانون، والمحامى الشاطر يعرف القاضى. وهذه إشارة إلى أن القاضى أهم من القانون.
ويكفى التذكير بمشهد مؤيدى «آل جور» ومؤيدى «بوش» فى انتخابات 2000 فى الولايات المتحدة، التى وقف فيها الطرفان على جانبى الرصيف انتظاراً لحكم المحكمة العليا دون أن يطلق أى منهما طلقة رصاص واحدة، وذلك لأنهم يثقون فى أن للدولة مؤسسات عادلة ونافذة قادرة على أن تضع الأمور فى نصابها.
خرج «آل جور» الخاسر ليقول: أختلف مع رأى المحكمة العليا ولكننى أحترمه، وجورج بوش أصبح رئيسى ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
بغير هذا، سنخسر كل حاجة.
لقد كان جزءاً من نضال الأجداد ثم الآباء هو تحقيق حلم «حرية واستقلال القضاء». ولكن السؤال:
هل استقلال القضاء وحريته يعنى استقلال بعض القضاة عن القانون وحرية بعض القضاة فى تحدى العدل؟
أنا مع القانون ضد الفوضى، ومع القضاء ضد الظلم. ولكن ماذا لو أدت بعض القوانين بظلمها للفوضى، وماذا لو أدى بعض القضاة بسوء تقديرهم للظلم؟ هذا هو السؤال الذى ينبغى أن يجيب عنه شيوخ القضاء الأجلاء. لا نريد أن نخسر كل حاجة.
أعلم أن درجات التقاضى متعددة، ومن الممكن تصحيح الخطأ فى الدرجات الأعلى؛ ولكن الوضع محتقن والرأى العام متحفز وقلق ومتوتر بما يكفى لأن نقدّر أن علينا أن نكون أكثر التزاماً بالعدالة من ناحية، وحرصاً على مراعاة مقتضيات الحال من أى وقت آخر. بقايا الدولة تتمثل فى مؤسسات قليلة لا نريد أن يفقد الناس الثقة فيها بسبب سلوك بعض القائمين عليها. أزعم أن هذا ليس وقت تحقيق مكاسب، وإنما هو وقت إدارة الخسائر وإصلاح المؤسسات فى الوقت نفسه عبر إعادة ثقة الناس فى أنفسهم ومؤسساتهم. وليس بأن ندع بعض المنتمين لبعض المؤسسات، التى نعلم أنها تعانى اختلالات داخلية، بأن يخرج منها ما يسىء إلى فكرة وجودها ومبرر بقائها. حين قالوا لشارل ديجول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية: «إن الألمان دمروا كل شىء فى فرنسا»؛ فكان رده: «ما دامت فرنسا لا يزال فيها قضاء وجامعات، إذن سنعيد بناء الدولة». وهذه هى القضية. سمعة القضاء ومصداقيته هما رأسماله الحقيقى. لقد فقد أشخاص كثيرون ومؤسسات كثيرة رأسمالها هذا. وخسرت مصر الكثير. ولا نريد لنزيف الخسائر أن يستمر.
أتصور أن المجلس الأعلى للقضاء بحاجة لأن يكون له دور أكبر فى توضيح أمرين: أولاً: حاجة الجميع للالتزام بالقانون نصاً وروحاً، لأن هناك من يتجاهلهما بلا تبصّر بالنتائج. ثانياً: توضيح الحقائق للناس سواء من خلال بيانات مكتوبة أو متحدث رسمى يوضح الحقائق ويكشف عن آلياته الداخلية لضمان أن يظل القضاء فى المكانة التى تليق بهذه المهمة الصعبة فى مجتمع انقسم على نفسه لهذه الدرجة. هذا جزء من الثقافة القانونية الضرورية.
يا أهل القانون والقضاء.. كى ننتقل إلى دولة القانون والقضاء؛ فلا بد أن يؤدى الاثنان للعدل. العدل فوق القانون، والقانون خادم له. العدالة فوق القضاة، والقضاة أدواتها.
هذا كلام مكرر عسى أن يصل هذه المرة لمن يعنيه الأم.
وبغير هذا سنخسر كل شىء.