مصر اليوم
ثبات المبادئ لا يعنى جمود المواقف. من كان مبدأه ألا تتدخل دول أجنبية فى الشئون المصرية يعنى أنه، التزاماً بالمبدأ، يمكن أن يتبنى موقفاً مؤيداً للتيار الليبرالى فى يوم وموقفاً معارضاً لهم فى يوم آخر.
إذن دعونى ابتداءً أضع المبادئ التى تحكم تصورى المتواضع بشأن ما يحدث فى مصر الآن، وبعض المواقف المترتبة عليها.
أولاً، أى دم مصرى يُسال من أى طرف هو عارٌ على من قام به أولاً، وعلى من أوصلنا لهذه النقطة ثانياً، وعلى من يسكت عنه ثالثاً. وكل تحذيراتى وآخرين خلال الشهور الستة الماضية التى ذهبت أدراج الرياح تؤكد أننا أمام فوضى فى القاع تعكس الفوضى التى فى القمة، فوضى فى الشارع تعكس الفوضى فى السلطة.
ثانياً، أى اعتقالات أو احتجاز تتم لأى شخص بدون سند واضح من الدستور والقانون هى استدعاء لاستبداد ينبغى أن نرفضه جميعاً سواء كان الاعتقال لشخص ليبرالى أو إسلامى أو غيرهما.
ثالثاً، أى إهانة لأى مصرى بسبب لحيته أو لأى مصرية بسبب حجابها هى عارٌ على من يقوم بها، وواجبنا أن نقف بجوار إخواننا ونزجر من يقدم على هذا الفعل. هذه الثورة من بدايتها ما كان ينبغى لها أن تكون ثورة جزء من الشعب المصرى ضد جزء آخر.
رابعاً، إخواننا فى الوطن من المنتمين للتيار الإسلامى هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطنى المصرى، وغير مقبول أن يتم الاعتداء عليهم لا بالعنف المعنوى أو العنف المادى، شأنهم فى هذا شأن كل المصريين. كما أنه من غير المقبول أن يحدث اعتداء منهم ضد غيرهم.
خامساً، كل طرف ارتكب من الأخطاء ما يجعل الطرف الآخر لو قرر أن يفتش على أدلة تدينه، فسيجدها، لا سيما مع نزعتنا التقليدية لتشويه المخالفين لنا فى الرأى ونزع المواقف عن سياقها.
سادساً، أى تعديلات فى الدستور أو فى خريطة الطريق يترتب عليها استبعاد أى مصرى يحترم دماء المصريين ويحترم السيادة المصرية هى غير مقبولة شكلاً ومضموناً.
سابعاً، رغماً عن يقينى أن الدكتور مرسى كان يقودنا للهاوية بغطرسة استثنائية، لكن إرادة المصريين الموثقة انتخابياً ينبغى أن تكون فوق الجميع.
ثامناً، أنا أدعو الرئيس المؤقت أن يعلن عن استفتاء سريع وخلال أيام عن استمرار الدكتور مرسى أو رحيله عن السلطة. العودة للشعب المنقسم ضرورة تجنباً للفتن، هناك للرئيس مرسى أنصار يؤيدونه شخصياً ويؤيدون جماعته، وهناك من يرفض فكرة عزل رئيس منتخب، أياً من كان هو، بغير الطرق الدستورية والقانونية. وهؤلاء جميعاً لا بد أن يعبّروا عن إرادتهم باستفتائهم عما جرى من إجراءات.
تاسعاً، التدخل العسكرى من أجل عزل رئيس منتخب، حتى لو تم بمباركة مؤسسات الدولة الأخرى مثل الأزهر والكنيسة والقضاء، يظل عملاً ملتبساً. بحكم الأداة المستخدمة يصنف فى إطار «الانقلاب العسكرى» ولكن بحكم الملابسات والتحذيرات والفرص المتاحة والاستجابة لأعداد كبيرة من المتظاهرين الراغبين فى الاستفتاء على بقاء الرئيس وبحضور مؤسسات أخرى فإننا نكون أمام وضع خاص لا يسهل تصنيفه فقط بالنظر للأداة، ولكن كذلك بالنتائج. وبناءً عليه:
عاشراً، تصنف بعض الدراسات الانقلابات إلى أنواع مختلفة. منها ما هو «انقلاب ضد الديمقراطية» مثلما كان عليه الحال فى الانقلاب ضد محمد مصدق فى إيران أو ضد الليندى فى شيلى. وفى الحالتين أدى الانقلاب إلى إلغاء العملية الديمقراطية والقضاء على الحريات. وهناك «تدخل عسكرى مع الديمقراطية» أى تدخل من المؤسسة العسكرية لدعم الحقوق والحريات. وتشير الأدبيات إلى أن التدخل العسكرى فى تركيا عام 1960، وفى البرتغال عام 1974، وفى مصر 2011 كان من هذا النمط الذى ترتب عليه القضاء على نظام استبدادى لصالح نظام ديمقراطى. ولكن المعضلة فى الحالة المصرية الحالية أننا بصدد «انقلاب على رئيس منتخب» ولكنه فى نفس الوقت رئيس يجمع صفات متناقضة كثيرة: هو نجح فى امتحان الانتخابات وأخفق فى امتحان الديمقراطية التشاركية رغماً عن وعده المتكرر بذلك. نجح فى امتحان السلطة وأخفق فى امتحان الدولة. نجح فى امتحان الرئاسة وأخفق فى امتحان القيادة. نجح فى امتحان الوعود والوعيد، ولكن أخفق فى امتحان الإنجاز والتنفيذ.
وكى أصارح حضراتكم، أنا لا أجد فى قلبى الكثير من التعاطف مع الدكتور مرسى بسبب سوء إدارته لبلاده، ولا لمكتب الإرشاد بسبب سوء تقديرهم للأمور.
وأتذكر حواراً دار بينى وبين قيادة إخوانية رفيعة عن مقالى بعنوان: «لمن يتحدث السيسى» فى 24 يونيو 2013، وقلت فيها: «سيأتى يوم يجتمع فيه أعضاء مكتب الإرشاد ليتلاوموا: مَن فعل ماذا؟ وقال ماذا؟ حتى ننتهى إلى وضع لن يكونوا راضين عنه».
مَن منا لا يقدّر سيدنا عثمان بن عفان، رضى الله عنه وأرضاه؟ ولكن مَن منا لم يتخيل أنه ربما لو كان قَبِل التنازل عن السلطة دون دماء لكان أولى به، ولما حدثت الفتنة، ولما انقسمت الأمة بين سنى وشيعى؟ الرجل، فيما تروى الكتب، ظن أنه يحسن صنعاً وأنه لن يخلع قميصاً «سربله» (أى ألبسه) إياه الله سبحانه وتعالى. طبعاً نحن فى النهاية نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، ولكن على الأقل، يجوز أن يكون التبصر فى التاريخ من شيم العقلاء.. أرجو ألا يأتى يوم يقول فيه الدكتور مرسى: «وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى». كلام «السيسى» ينبغى أن يؤخذ بمأخذ الجد. مصر على المحك، والانقسام تحول إلى استقطاب، والاستقطاب تحول إلى احتقان، وها هو الاحتقان يتحول إلى غليان. وربنا لطيف بعباده.
وبعد أن تناقشنا: وعدنى أن ينقل للسيد الرئيس ولمكتب الإرشاد تحذيرى، ولكن واضح أنه إما لم ينقل أو هم لم يستمعوا.
إذن، أنا لا أملك أمام ما حدث من أخطاء متتالية ومتكررة ومتتابعة لخصتها كثيراً تحت عنوان: المكايدة والمكابرة والمعاندة والمكابرة من جميع الأطراف إلا أن أطالب بألا يترتب على أى إجراء يتم الآن أى مما يلى:
أولاً، لا يمنع أحد من الترشح للانتخابات القادمة.
ثانياً، عدم تقييد حرية أحد بدون وجه من القانون.
ثالثاً، عدم الحديث عن المصالحة ثم تطبيق القمع.
رابعاً، أن نعود للإرادة الشعبية بأسرع وقت ممكن حتى يقول المصريون كلمتهم بطريقة موثقة وعبر استفتاء أو انتخابات حرة ونزيهة.
والله غالب على أمره.