بقلم - عمار علي حسن
مع العدل في استقامة كجسده الممشوق، بل أصلب عودا. هكذا أرى دوما سعادة المستشار زكريا عبدالعزيز، رئيس نادى القضاة، ورئيس محكمة الاستئاف الأسبق، وقبل كل هذا ومعه، هو القاضى الجليل، الذي يؤمن دوما بأنه مريد متوكل في ساحة العدل الأكبر، وهو إيمان لا يتقول فيه ولا يزايد ولا يشاحن أو يزاحم، إنما يفعله ببساطة شديدة، وتلقائية وعفوية ظاهرة، وهذا لأن العدل كقيمة كبرى، والعدالة كمسار أساسى وأصيل للقضاء، ذائبة في نفسه، مختمرة في عقله، نابضة في عروقه.
أتابع حاله الآن، بمزيد من التدبر والاعتبار، وأقول لنفسى: يبقى في النهاية واقرا مستقرا في ذاكرة الناس والوطن من أخلص له، ومن آمن أن الاستجابة لما حلم به الشعب من حق، ليس سوى الحد الأول للكفاية، الذي لا يجب أن يتنازل عنه أحد، خاصة من سراة الناس أو نخبتهم، فكيف لأمرئ ذى سوية أن يتنازل عن العدل والحرية؟!.
نعم، زكريا عبدالعزيز، واحد من الذين لا يمكن لتاريخ بلادنا الحقيقى أن ينساهم، أو يتجاهلهم، مهما اشتدت الظروف التي تعمل على ترك جانبهم، وإهمال شأنهم، وإبعادهم عن دائرة الضوء التي يجب أن تكون دوما مفعمة بعزائم الرجال القادرين على الفعل والإقدام والاستجابة. فما لمسته في قلب هذا الرجل من محبة لمصر، وإيمان بقيمها وقامتها، يكفى ليجعله واحدا من كبار المناضلين من أجل التقدم، الذين تُستدعى أسماؤهم، بلا تكلف ولا افتئات، حين يُكتب ليس فقط تاريخ القضاة المصرى، إنما أيضا التاريخ السياسى لبلادنا، على وجه العموم.
رأيت هذا الرجل الكبير في حد ذاته، للمرة الأولى، أيام انتفاضة القضاة ضد الرئيس الراحل حسنى مبارك، إذ كنت أحضر لقاءاتهم المتتابعة، وقتها كان زكريا عبدالعزيز رئيسا لناديهم. رأيته واقفا في شموخ، كأنه نخلة نابتة في طين مصر، الذي يعرفه هو جيدا. كان يعطى الكلمات إلى غيره، من القضاة، غير مستأثر بشىء، ولا راغب في انفراد، وكان الأهم من كل هذا أنه بدا مؤمنا بأن استقلال القضاء ضرورة لا غنى عنها لأى دولة عصرية، تسعى إلى إقامة البنيان والنهوض، فالعدل أساس الملك، دائما وأبدا.
وتسألنى أنت أيها القارئ: هل أصدرت حكما من رؤية الرجل عن بعد؟، وأجيبك: نعم رأيته هكذا في أيام اعتراض القضاة على ما جرح استقلالهم، في أواخر عهد مبارك، وكان أداؤه وقتها كافيا للحكم الظاهر على سماته وقسماته، ثم تابعته وهو يمضى قائلا وفاعلا في غمار ثورة يناير 2011 غير عابئ بالزحام والسخام والظلام، ووقتها تقاربنا بحكم التجربة السياسية الفائرة، وفى أيام الشدائد يعرف الرجال. شاركته، كابن ورفيق له، وتناقشنا طويلا حول أحوال الوطن، وكم وجدته من القلة القليلة التي تمتلك فضيلة إنكار الذات، تلك الفريضة الغائبة في حياتنا السياسية، إلا من استثناءات قليلة. كان لهذا القاضى الجليل دور ملموس في حض الشباب على الالتزام بسلمية الثورة، هكذا رأيته يحدثهم في قلب ميدان التحرير وعلى أطرافه، وهو كرجل قانون رأى دوما أن العنف يفسد عدالة القضية، وأى جرائم ترتكب باسم انتزاع الحقوق، لن تفيد أبدا. وسمعته كثيرا يطلب من الثوار ألا يتصرفوا خارج القانون، وكان ينأى بنفسه عمن لا يلتزم بهذا، رغم النصائح، بل كان يشكك في ولائه للثورة، ويراه من المندسين أو المغرضين.
أيامها كان البعض يسألونه عن اشتغال القاضى بالسياسة، فكان يجيب بأن مصر في لحظة استثنائية من تاريخها، يجب أن يشارك الجميع فيها، كل بما يعرف أو يفهم أو يقدر أو يجود، وأن القاضى يصدر أحكامه باسم الشعب، فإن أراد الشعب شيئا، عليه أن يكون معه، لا يخونه، ولا يخذله. وكان يرى أيضا أن الشعب هو الذي يقف في موضع من يصدر الحكم، والقاضى الحقيقى يجب أن ينصت إلى صوته، بل لا يكتفى بهذا إنما يساعده على أن يكون هذا الحكم منصفا ونافذا.
أيامها لم يكن الرجل ينظر إلى الناس من عل، بل كان منخرطا بكل كيانه في صفوفهم، يصغى ويتحدث، وينصح ويربت الأكتاف ويشحذ الهمم. عاد وقتها شابا جسورا هصورا، يرتدى أحيانا حذاء خفيفا، ليكون من السهل عليه أن يجوب الشوارع، مؤازرا للثورة. أذكر أنه هاتفنى ذات مرة وهو قلق من عنف اندلع في منطقة شبرا، كان صوته متقطعا من فرط لهاثه، وحين سألته: أين أنت؟، أجاب: أنا في طريقى إلى هناك، لأعرف ما يجرى، ويقدرنى الله على أن أساهم في وأد الفتنة، فهذا ما يرضى ضميرى.
ولضميره هذا، ألجأ إليه أحيانا لأسأله في أشياء قانونية، واثقا هنا في قلبه وضميره، أو حسه بالعدالة، إذ إن كثيرين يحفظون القوانين عن ظهر قلب، ويصلون إلى ثغراتها من أقرب طريق، وفى مهارة فائقة، ويمتلكون قدرة هائلة على التأويل والتعديل والتذليل، لكن قلة القلة ممن تستشيرهم في القانون، تنطق ألسنتهم بما تنبض به قلوبهم من عدل، وهذا هو الأهم لمن يريد أن تمضى الحياة في خير وسلام.
جرت في النهر مياه كثيرة، وتقدمت السن بالمستشار زكريا عبدالعزيز، وجلس في بيته بعد إحالته إلى المعاش، لكن الأمل والعدل بقيا شابين في نفسه. هكذا أشعر كلما تهاتفنا أو التقينا على غير انتظام أو بموعد ضربناه سويا. فرغم أن بعض حديثه يذهب إلى الأمراض التي زحفت إلى جسده، وإلى ظروف العيش التي تصعب عليه كسائر الناس الذين ينتمى إليهم، إلا أنه لا يزال مشغولا ومهموما بمصر، منصرف الذهن والقلب إلى حال القضاء، يتابعه ويراقبه عن كثب، عارفا بأهله، راضيا بما قال وفعل وقدم لهذا الوطن من سنوات زاخرة بالعطاء في رحاب العدالة الوسيع.