عمار علي حسن
وعبر اللغة يمكن منح الواقعة السياسية الواحدة معانى مختلفة، فعلى سبيل المثال، فإن غزو دولة لدولة أخرى، قد يعتبره خطاب سياسى معين «انتهاك سيادة دولة مستقلة»، بينما ينظر إليه خطاب آخر، خاصة الذى تصدره الدولة الغازية، على أنه «تحرير شعب من سلطة مستبدة»، وهذا ينطبق على الحالة العراقية الراهنة. وحين يتحدث المسئولون عن النفقات الحكومية على أنها استثمارات عامة، فإن لغتهم تبدو مفعمة بالألفاظ التى تنم عن الفخر، وعلى العكس يتم تغليف هذه اللغة بالتواضع إذا تم النظر إلى هذه النفقات على أنها ضرائب تدفعها الجماهير.
فليست السياسة سلعة مادية مثل الدراجة أو السيارة، وليست وجبة نتناولها، بل هى خطاب. والكلام أمر مهم فى الحياة اليومية للساسة، فنحن نتعرف على الأحداث السياسية من خلال الكلمات، التى نتلقاها من التحدث مع الساسة، أو قراءة الصحف، أو مشاهدة الأخبار المتلفزة. وإذا كانت الأنظمة السياسية تحاول بكل ما وسعها من جهد أن تكتسب الشرعية، فإن الشرعية تأتى، فى النهاية، من الخطاب، أى من اللغة.
واللغة تشكل نقطة تماس بين السياسى والأدبى. فالأدب استخدام خاص للغة، والنص الأدبى مجموعة من التراكيب اللغوية التى تعلق بعضها ببعض على نحو مخصوص، واللغة تتشكل أحياناً من أجل تحديد رسالة سياسية معينة. فالزخم الجمالى والموسيقى واللغوى الكامن فى أى نص هو نفسه أيديولوجيا، إذ إن الجانب الجمالى فى النهاية هو تعبير عن موقف فكرى معين، كما أن التصورات الأيديولوجية موجودة فى مجال التعبير اللغوى ومحكومة بمنطقه. فاللغة أداة للتحكم بقدر ما هى أداة للإبلاغ، وعليه فإن الصيغ اللغوية تسمح بنقل المعنى، وفى الوقت ذاته، تسمح بتشويهه. وبهذه الطريقة يمكن التأثير السيئ فى المستمعين وإعلامهم بالشىء ونقيضه، على السواء، أو لنقل إنه يمكن تضليلهم، فى الوقت الذى يعتقدون فيه أنهم يتلقون المعلومات الصائبة. ومن هنا تعد اللغة ذات طبيعة أيديولوجية. ومن ثم نظر بعض المفكرين العرب للأدب على أنه وسيلة مهمة؛ لبعث الروح القومية، والحفاظ عليها. لذا نجد أن مفكراً قومياً كبيراً، مثل ساطع الحصرى، يطالب الأدباء بأن يتحملوا مسئوليتهم تجاه المجتمع، ويؤمنوا بوحدة الأمة ولا يستسلموا لنوازع الإقليمية أو يندفعوا وراء فكرة العالمية، ويجندوا إنتاجهم الأدبى فى خدمة القومية العربية. وشبه «الحصرى» المنتوجات الأدبية من حيث تأثيرها الاجتماعى ببعض المصنوعات المادية، ورأى أن من الأدب ما يعمل عمل أسلحة الحرب والنضال، ومنه ما يعمل عمل آلات الحرث، ومنه ما يعمل عمل أدوات الزينة، مثل القلائد والأساور، ودعا الأدباء العرب لأن تكون كتاباتهم أسلحة فى مواجهة أعداء الأمة، ومحاريث تساهم فى زيادة إنتاجها وتقدمها.
ويقلب الخطاب السياسى الرسمى العربى فى أغلبه تلك النصيحة، التى «تسيس الأدب» متكئة على اعتقاد جازم فى التزام الأدب والأديب اجتماعياً وأيديولوجياً، ليرسم معالم مختلفة فى «تأدب السياسة» متكئاً على تصور مفاده أن الكلمات ذات الجرس القوى، القادمة من قلب البلاغة العربية القديمة، يمكن أن تكون قذائف توجه إلى صدر الأعداء، فى ممارستها للون من «الدعاية»، وبدرجة أكبر ستكون «معزوفة كلامية» تدغدغ مشاعر الجماهير، وتنفخ فى أوصالهم، ليتحمسوا فى صد العدو، وقت الحرب، أو لفت انتباه الجماهير الغفيرة بعيداً عن القضايا الواقعية الحقيقية، وقت السلم.