توقيت القاهرة المحلي 11:36:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فى وصف حضرة صوفية

  مصر اليوم -

فى وصف حضرة صوفية

عمار علي حسن

بعد صلاة العشاء جاء ثلاثة رجال يرتدون جلابيب بيضاء، رفعوا حُصَر الديس والقش والحلفا، وأحضروا ثلاثة جرادل مملوءة بماء قراح، ورشوا الأرض برذاذ خفيف، ثم فرشوا الحصر، ووضعوا سجادة خضراء ذات عُقد وشراشيب بنية على هيئة قباب مساجد عتيقة. وجاء رجل رابع يحمل مجمرة، ونفخ فيها ففاح البخور، وعطَّر المكان.
ووزع خامس كتاب «دلائل الخيرات» على الحصر فى صفوف، وعلق سادس مزيداً من الفوانيس بعد أن ملأها بالكحول، ودس فى جوفها رتائن جديدة، ففج النور الأبيض وتلألأ، وحوّل ليل المكان إلى نهار.
وهلَّ الشيخ أخيراً، رجل بهىُّ الطلعة هو، يخبُّ فى بياض الثوب والعمامة واللحية الشهباء القصيرة التى تطوّق وجهاً قمحياً تتوسطه عينان وسيعتان. وكانت تمشى خلفه أخلاط من الرجال، بدناء ونحفاء، طوال وقصار، كان أحدهم يمسك دفاً محفورة على جوانبه بعض أسماء الله الحسنى، يهزه فيُحدث شخللة وصهللة، فتتراقص البهجة، وإلى جانبه رجل ذو وجه مثلثى يمسك ناياً يتلوى بين أصابعه، فتتقاطر منه آلام محبوسة من أنين الحضرة الفائتة.
جلس الرجل المهيب فى الصدارة، وتوزع المقبلون معه على الحصر، ولحق بهم آخرون، وجلس كل منهم أمام نسخة من الكتاب، ومدوا أيمانهم وأمسك كل بكتابه، وبدأ الشيخ فى القراءة وأصوات مريديه تصاحبه، فتصنع لحناً شجياً. وأول ما قرأوا كان أول الكتاب الذى بأيديهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنى نوَيتُ بالصلاة على النبىِّ، امتثالاً لأمركَ، وتصديقاً لنبيِّكَ محمد، ومحبَّة فيه وشوقاً إليه، وتعظيماً لقدره، ولكونه أهلاً لذلك فتقبَّلها منى بفضلك وإحسانك، وأَزِلْ حجاب الغفلة عن قلبى، واجعلنى من عبادك الصالحين. اللهم زِدْهُ شرفاً على شرفه الذى أوليته، وعِزَّاً على عِزِّه الذى أعطيته، ونوراً على نوره الذى منه خلقته، وأعْلِ مقامه فى مقاماتِ المُرسلين، ودرجته فى درجاتِ النبيِّين، وأسألك رضاك ورضاه يا ربَّ العالمين، مع العافية الدائمة، والموتِ على الكتاب والسنَّة والجماعة، وكلمتى الشهادة على تحقيقها، من غير تبديل ولا تغيير، واغفر لى ما ارتكبته بفضلك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين، وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين».
وبعد أن انتهوا من القراءة قام أحد المريدين وفى يده مشنة من الخوص، وراح يوزع قراقيش معجونة بالملح والكمون على الذاكرين، كل منهم التقط واحدة، وقضمها متلذذاً. ودار عليهم بعده رجل يحمل إبريقاً مملوءاً بماء الورد وكوباً صغيراً من النحاس، فشربوا وذاب الطعم فى حلوقهم.
وقام الشيخ فقاموا فى صفين متوازيين، وهم يهزون أكتافهم فى لطف حتى تعتدل الجلابيب عليها، وصوَّبوا عيونهم نحو شيخهم، فحطَّ عينيه عليهم فى نظرة واحدة وهو يبتسم، ثم ضرب كفيه، وراح يطوح رأسه يميناً ويساراً وصوت يخرج من قلبه: «الله حى.. الله حى»، فطوَّح المريدون رؤوسهم ورددوا وراءه، ثم دقَّ الدف مختلطاً بنشيج الصدور، وناح الناى، فانجرحت النفوس، وتخلت عن مشاغل الدنيا، وتجلت بأنفس ما فيها.
وجاء صوت المنشد عذباً مشحوناً بمعانٍ سامية:
«والله ما طلعت شمس ولا غربت... إلا وحبك مقرون بأنفاسى
ولا خلوت إلى قوم أحدثهم... إلا وأنت حديثى بين جلاسى
ولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاً... إلا وأنت بقلبى بين وسواسى
ولا هممت بشرب الماء من عطش... إلا رأيت خيالاً منك فى الكاسِ
ولو قدرت على الإتيان جئتكم... سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ».
وطارت القلوب فى روعة الشعر والتذوق، متأرجحة بين مسرَّة الدف ووجع الناى، وصفت السماء فوق الرؤوس، وراحت تسحب روائح البخور الزكية، وتنصت إلى عذب الكلام الذى تشدو به حنجرة ندية، تفيض العيون لسماعها، ويصل الخشوع إلى ذروته. 
"الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى وصف حضرة صوفية فى وصف حضرة صوفية



GMT 09:17 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 09:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 09:10 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 09:08 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 09:06 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 09:03 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 09:00 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 08:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الاستقلال اليتيم والنظام السقيم

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon