فاروق جويدة
يمكن ان نسمى السنوات الأربع الماضية السنوات العجاف فقد شهدت مصر خلالها ظروفا صعبة وقاسية ما بين احلام التغيير والانطلاق وقيود الارتباك وعدم الاستقرار ..
ما بين امان غاب وحلم فى التغيير تراجع عاش المصريون تجارب كثيرة فى هذه السنوات إلا ان الشىء المؤكد وسط هذا الكم من الإحباطات ان هناك اشياء كثيرة تغيرت فى الواقع المصرى والإنسان المصرى وصورته امام العالم .. هناك سلبيات طفحت على وجه الشارع المصرى فى السلوكيات والأخلاق وهى نتيجة طبيعية للفقر والجهل والتخلف اشياء تركها النظام السابق حين وضع على وجه المجتمع قشرة مزيفة من المهرجانات والعلاقات والصور الكاذبة وان بقى القاع متخلفا ومريضا .من اكثر المجالات التى كشفت هذا القاع المتخلف المريض الإعلام المصرى وهو يعيش ازهى مراحله انطلاقا واسوأ حالاته فكرا وسلوكا .. وهذا تناقض غريب ان يزداد الانتشار وتتراجع القيمة .. ان يزداد التأثير وتسقط المسئولية ان نشاهد كل شىء ولا نشعر بقيمة اى شىء.
هذا التكدس الرهيب فى وسائل الإعلام ما بين الفضائيات والصحف ومواقع النت والتواصل الاجتماعى والتليفون المحمول وسائل عديدة دخلت المجتمع المصرى وبدلا من ان يزداد المجتمع علما واستنارة سقط فى مستنقع من الإسفاف والانحدار وغياب المفاهيم والمسئولية .. لقد لعب الإعلام المصرى دورا كبيرا فى إسقاط نظامين وخلع رئيسين وخاض معركة ضارية ضد فساد نظام رحل وتخلف جماعة سطت على السلطة .. هذا الإعلام استطاع ان يكون صاحب دور ورسالة فى هذه اللحظات الصعبة وبقدر ما صال وجال فى معركة التغيير فى مصر بقدر ما سقط مرة واحدة فى مستنقع الإسفاف امام فهم خاطئ للحرية ومحاولة يائسة لتصوير مجتمع ديمقراطى لم يولد بعد وليست لديه المؤهلات التى تجعله يخوض تجارب الديمقراطية الحقيقية بوعى وادراك .. ان الإعلام المصرى يخسر كل يوم الكثير من قواعده وقدراته امام زعامات كاذبة وخبرات هزيلة وغياب تام لأهم عناصر النشاط الإعلامى وهى القيمة والمسئولية .
امامى الآن عدة براهين تؤكد ان إعلامنا يسير فى الطريق الخط، والغريب فى الأمر ان الدولة حائرة امام عجزها عن مواجهة قضايا الانفلات الإعلامى ان جميع المسئولين فى الدولة يتحدثون الآن عن القصور الواضح فى أداء الإعلام المصرى رغم عدد القنوات والبرامج والأشخاص ومئات الملايين التى تتبخر فى الهواء دون حساب او رقابة من احد .. آخر ما لحق بالإعلام من التهم ان الأشخاص المرشحين لمناصب المحافظين اعتذر 90% منهم عن عدم قبول المنصب بسبب الإعلام لأن الباشا المذيع يجلس كل ليلة على رأس فضائية ويطلق نيرانه فى كل اتجاه ويخاطب الناس وهو يرتدى زى القناصين واصحاب السوابق.
تعال معى نناقش القضية بشىء من الحكمة والعقلانية ..
ما علاقة اصدقائنا فى دولة الإعلام بالقضايا الدينية لقد دخلوا الساحة تحت شعار تجديد الخطاب الدينى وهى قضية مطروحة وتحتاج مواجهة فكرية مستنيرة لإخراج الناس خاصة الشباب من هذا.. المرض الرهيب الذى اصاب عقولنا وهو التطرف الدينى .. هنا المشكلة واضحة امراض فكرية يعانى منها الإنسان العربى وهى لا تدخل فى نطاق الاجتهاد الإعلامى بل هى قضية علماء الدين .. وخبراء علم النفس والاجتماع ما هو نصيب الإعلامى من هذه القضية حتى ينصب نفسه فقيها وعالما وخبيرا فى كل شئ .. لقد وصل الأمر الى التشكيك فى احاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بل و الإقتراب بجهل من تفسير القرآن الكريم.. فى يوم من الأيام تعرض كاتبنا الراحل مصطفى محمود لهجوم عنيف حين حاول ان يقترب من القضايا الدينية .. وكانت هناك معركة صاخبة بين توفيق الحكيم وفضيلة الإمام الشيخ الشعراوى حول مقالات الحكيم حديث مع الله شارك فيها د. زكى نجيب محمود ود. يوسف ادريس ولم يكن لرجال الإعلام مكان فى هذه المواجهات الفكرية التى تحتاج الى ثقافة اعمق ورؤى فكرية ودينية تتجاوز فى عمقها ورؤاها النشاط الإعلامى .. الأغرب من ذلك كله ان التجرؤ على الخوض فى هذه القضايا شهد تجاوزات فى اللغة والحوار والاجتهاد ايضا بحيث اساء لرموز دينية فى التراث لا ينبغى ابدا تشويه صورتها ..
ماذا يعنى الهجوم على الإمام البخارى فى اكثر من مكان ان الهدف ليس البخارى الذى جمع احاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وهو اهم مصادرها فى كتابه فتح البارى ان الواضح من هذا الهجوم انه سابقا او لاحقا سوف يصل الى السيرة النبوية واحاديث الرسول وهى من اهم مصادر العقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم بل ان البعض من الإعلاميين بدأ يتجرأ على القرآن الكريم ويشكك فى تفسير الآيات وهو لا يستطيع اعراب جملة واحدة ..
فى تقديرى ان هذا ليس عمل الإعلاميين وإذا كان احدهم يريد الخوض فى هذه الجوانب فعليه ان يتسلح بالفكر والثقافة والدراسة التى تؤهله لذلك لأننى اخشى ان تكون هناك اياد خفية تحرك هذا النشاط الإعلامى المشبوه بحيث يصل الى القرآن الكريم ونبينا عليه الصلاة والسلام.. إن الخطاب الدينى يعيش محنة قاسية ولكن الإعلام والإعلاميين غير مؤهلين للدخول فى هذه المناطق وعليهم ان يكفوا عن هذا العبث وإذا لم يتراجعوا فعلى الدولة ان تمنع هذه التجاوزات .. إذا كان الإعلامى لا يستطيع ان يهاجم وزيرا خوفا من العقاب فكيف يتجنى على فقهاء فى حجم البخارى وابن كثير والائمة العظام وهو لم يقرأ ما كتبوا ولايفهم ما قالوا .
هناك ايضا قضايا الجنس والعفاريت وهى ثنائية تأخذ الآن مساحات واسعة فى الإعلام المصرى وتبدأ بقضايا الشذوذ وتنتهى عند عيادات للعلاج بالسحر والشعوذة يدفع فيها المواطن الغلبان 500 جنيه فى الكشف عن طريق العفاريت والجن وبدلا من ان يذهب الى طبيب يعالجه فهو يختار احد الادعياء ليجد عنده العلاج .. وبجانب برامج العفاريت هناك البرامج الجنسية التى تتحدث عن المنشطات والعلاقات الخاصة والشاذة، وقد شاهدنا قضية الشواذ التى حكم فيها القضاء بالبراءة للمتهمين بعد كل الفضائح الإعلامية التى تعرضوا لها فمن يعيد لهؤلاء كرامتهم التى اهينت امام إعلام غير مسئول ومن ينصفهم بعد الاتهامات التى تعرضوا لها واساءت لسمعتهم واسرهم وحياتهم .. هناك عشرات البرامج التى تتسلل الى خصوصيات الناس وتقدم اسوأ النماذج السلوكية عن الأب الذى يعاشر ابنته جنسيا، ولا اتصور ان مثل هذه البرامج تفيد المشاهد فى شىء ،انها كوابيس ليلية تطارد الناس فى بيوتهم ولا احد يعرف من وراء تشجيع هذه البرامج واتساع مساحتها خاصة على الفضائيات الخاصة وهى تعكس حالة من الانحطاط السلوكى والأخلاقى التى اصابت الإعلام المصرى ..
هناك الزعامات التليفزيونية التى قسمت الشارع المصرى واساءت للعلاقات بين ابناء الوطن الواحد .. لم تشهد مصر فى تاريخها الحديث حالة الانقسام التى نعيشها الآن وكان الإعلام هو المسئول عنها ما بين ثوار يناير وثوار يونيه وفلول الإخوان وفلول الوطنى ونصب الإعلام شركا للدفاع عن هذا والهجوم على ذاك وتحول المذيعون الى منصات لإطلاق الصواريخ كل ليلة .. ولم تكتف هذه الزعامات بالإساءة للعلاقات بين المصريين ولكنها انتقلت الى علاقات مصر بالدول الشقيقة واصبح من حق اى مذيع او مقدم برامج ان يفتى ويقيم ويتحدث باسم الدولة وباسم الشعب فى ظل غياب كامل للإحساس بالمسئولية .. ان منصات إطلاق القذائف الليلية على الفضائيات جريمة فى حق الشعب المصرى الذى تعبث به كل ليلة قوافل الإعلام شمالا وجنوبا وفى كل اتجاه .
كيف ظهرت هذه الزعامات التليفزيونية ومن اعطاها كل هذه المساحات على الفضائيات لتعبث كيفما شاءت بعقول الشعب الغلبان .
ان الأخطر من ذلك كله هو عمليات التحريض التى تمارسها الفضائيات ضد ابناء الشعب الواحد وكأننا نعيش حربا اهلية .. لقد أسهم الإعلام المصرى خاصة الفضائيات بدور كبير فى تقسيم الشارع المصرى طوال السنوات الأربع الماضية واصبح من السهل ان تشاهد على كل قناة فريقا يمثل تيارا بعينه ما بين الوطنى المنحل والإخوان وبقايا النخبة والعهد البائد .ان الإعلام المصرى الآن يمثل واحدة من اخطر الأزمات التى تواجهها مصر خاصة مع حالة الانفلات التى تعيشها سياسيا واخلاقيا وفكريا واصبحت الحكومة بكل مؤسساتها عاجزة عن مواجهة هذا الأخطبوط الذى يهدد امن مصر واستقرارها .. من السهل جدا ان تسمع نقدا حادا من كبار المسئولين للإعلام المصرى ولكن لم يتحرك احد لإنقاذ السفينة .. ان كل قناة يقف خلفها طابور طويل من اصحاب المصالح يدافعون عن وجودهم ويستخدمون كل الوسائل لتحقيق المزيد من هذه المصالح بل ان الأموال التى تدفع من هذه القنوات تمثل لغزا حائرا لأن الإعلام الآن لا يحقق ارباحا او مكاسب تتناسب مع ما تتحمله هذه القنوات من نفقات.
ان هذا الإعلام المرتبك كان سببا رئيسيا فى حالة الفوضى التى يعيشها الشارع المصرى وما بين تجاوزات دينية واخرى اخلاقية وزعامات ورقية كاذبة على الشاشات وتجارة بالجنس والعفاريت تدور عجلة الإعلام المصرى وكأنه اسد تربى داخل اسرة صغيرة وحين كبر التهم الجميع.