فاروق جويدة
أتابع منذ فترة ليست بعيدة ظاهرة غريبة تحتاج الى وقفة حاسمة وصارمة لمنع هذا التداخل الغريب فى الأدوار والمسئوليات بين اجهزة الدولة
.. لقد بدت امامنا شواهد كثيرة تؤكد ان مؤسسات الدولة لم تعد تتمتع بالخصوصية المطلوبة وقد تجسد ذلك بصورة واضحة فى دور مؤسسات تختص بقضايا الأمن القومى .. فى زحمة الأحداث وارتباك المشهد العام وحالة الفوضى التى سادت حياة المصريين وجدنا على شاشات التليفزيونات وصفحات الجرائد والمجلات اسرارا وقصصا وحكايات لا يمكن ان يكون لها غير مصدر واحد هو مؤسسات واجهزة الأمن القومى .. وهذا يطرح سؤالا فى غاية الأهمية: إذا كانت السرية التامة هى اهم خصائص نشاط هذه الأجهزة فكيف تسللت اوراقها واسرارها وتسجيلاتها الى هذه العلانية من خلال الصحف والتليفزيونات؟! .. ومنذ متى كان الإعلام قادرا على الحصول على مثل هذه الأسرار بأساليبه التقليدية المتعارف عليها؟! ان هذا يعنى ان مثل هذه الأسرار قد تسربت لأسباب واضحة ورغبة حقيقية فى توصيلها للرأى العام، وان الإعلام لم يكن اكثر من وسيلة منذ زمان بعيد ونحن نعلم ان اسماء كثيرة تمارس اعمالا مزدوجة ما بين الإعلام واجهزة الأمن ولكن ذلك كان يتم بطريقة سرية ولم يصل الأمر الى مثل هذه الأنشطة المكشوفة التى تعكس خللا فى أداء الأدوار والمسئوليات.
< لنكن اكثر وضوحا ونحن نطرح هذه القضية، فى عام 1968 ثارت الدنيا حول عدد من التقارير التى تسربت من إحدى المؤسسات السيادية التى تختص بقضايا الأمن القومى وهى جهاز المخابرات العامة ويومها تم الكشف عن اسرار كثيرة حول تجاوزات هذا الجهاز فى عهد رئيسه صلاح نصر .. وكان خروج هذه التقارير من دائرة السرية حدثا كبيرا اهتزت له اركان كثيرة .. وبعد ثورة يناير اقتحم المتظاهرون مبنى جهاز امن الدولة فى مدينة 6 اكتوبر وتم السطو على تقارير كثيرة تسربت ما بين الأيادى وصفحات النت وذهب بعضها الى اجهزة الإعلام وشهدت اعتداءات كثيرة امتدت الى ارشيف هذا الجهاز الخطير ..
< فى الحالة الأولى وهى تقارير قضية جهاز المخابرات فى عام 1968 كان واضحا ان ظهورها كان يهدف الى التأثير فى مسيرة المحاكمات التى دارت بعد نكسة 67 وقصة انتحار المشير عامر ومحاكمة صلاح نصر وعمليات التصفية التى دارت بين القوى السياسية فى سلطة القرار فى ذلك الوقت .. وعندما قام الرئيس السادات بثورة التصحيح واطاح فيها برموز حكم عبد الناصر ذهب السادات بنفسه وحطم اسوار سجن طرة، معلنا بداية عصر جديد من الحريات بعيدا عن السجون والمعتقلات وكتاب التقارير.
< هذه كلها ملابسات احاطت بدور ومسئوليات اجهزة الأمن القومى .. وإذا كان التاريخ قد سجل بعض تجاوزات هذه الأجهزة امام تصفية للحسابات السياسة بين قوى متصارعة او وقائع حقيقية إلا ان هذه الأجهزة قامت بدور كبير فى حماية هذا الوطن ضد المؤامرات الخارجية والداخلية وكانت حصنا للأمن القومى المصرى .. لا احد ينكر دور جهاز المخابرات ومعاركه الخارجية ضد الموساد واجهزة المخابرات العالمية والتى حقق فيها انجازات رهيبة، ولا احد ينكر دور جهاز امن الدولة فى التصدى لمحاربة الإرهاب فى التسعينيات خاصة فى قضايا التطرف الدينى واغتيال الشيخ الدهبى وضحايا مذبحة الأقصر من السياح.
< إذا كان هناك من تناول تجاوزات هذه الأجهزة فى إطار تصفية لحسابات او دعما لتيار سياسى دون آخر فإن الأمانة تقتضى ان نعترف بأن هذه الأجهزة كانت من اهم مصادر الحماية لأمن مصر القومى ..
< اعود من حيث بدأت واتساءل: كيف تداخلت انشطة لها كامل السرية مع وسائل الإعلام وهى لا تعترف بشئ يسمى السرية او حتى الخصوصية... فى فترة قصيرة شاهدنا على الشاشات قصصا وحكايات واسرار مكالمات تليفونية بين نشطاء سياسيين ورموز مختلفة من جميع التيارات والقوى السياسية، وهذه التسجيلات تحمل اكثر من وجه .. إن فيها اسرارا تهدد الأمن القومى المصرى وفيها احاديث ومكالمات تليفونية تدين اسماء كثيرة بل انها تصل بها الى مستنقع الخيانة العظمى حيث التآمر ضد مصالح الوطن .. هذا هو الوجه الأسود فى القضية، ولكن على جانب آخر فإن هذه التسجيلات لم تراع قضايا حقوق الإنسان والحياة الخاصة للمواطن وكيف تسربت اجهزة التسجيل واقتحمت حياته ؟!
< إذا توقفنا عند الشق الأول من القضية فإن المسئولية كانت تحتم على القائمين بهذه التسجيلات ان تقدم للتحقيق فيها خاصة ما يهدد الأمن القومى منها، وهذه المسئولية تدخل فى اختصاص من قاموا بعمليات التسجيل ..
وإذا لم تكن الأجهزة المسئولة عن الأمن القومى هى التى سجلت هذه المكالمات فمن قام بها وكيف وصل الى هذه الدرجة من السلطة التى منحته الحق فى تسجيل مكالمات المواطنين؟! وهنا تصبح المسئولية مزدوجة على من اعطى نفسه حق التسجيل .. ومن باعه وسربه الى وسائل الإعلام، وهنا ينبغى ان تبرئ اجهزة الأمن القومى نفسها وانها لم تكن شريكا فى هذه العملية على الإطلاق .
< إذا توقفنا امام ما حدث على اساس انه نشاط يدخل فى مسئوليات اجهزة الأمن وانه تم فى هذا الإطار يكون السؤال كيف وصل الى اجهزة الإعلام .. وإذا كان قد تم بعيدا عن هذه الأجهزة يكون السؤال : من الذى قام به وعلى اى اساس اعطى نفسه هذا الحق، وهنا ايضا يكون السؤال بعيدا عن بديهيات العمل الصحفى لكل من كشف هذه الأسرار امام المواطنين : كيف وصلت اليه وما هى اطراف اللعبة؟!.
< ان من حق الذين تشوهت صورتهم على وسائل الإعلام المرئى والمقروء ان يعرضوا قضيتهم ويتساءلوا إذا كانت اجهزة الدولة المسئولة هى التى فعلت ذلك فلماذا لم تقدمنا للمحاكمات وكيف سمحت لنفسها ان تقدمها للإعلام بهذه الصورة فى حين ان خطورة الأمر تتطلب ان يكون مكانها اعلى جهات التحقيق فى الدولة.
ان البعض يستخدم كل هذه الأشياء كنوع من الإرهاب الفكرى وهذا امر لا يليق بدور اجهزة الأمن ومسئوليتها اوالرسالة السامية للإعلام .
< سوف يقول الزملاء الصحفيون ان اسرار المهنة تمنع سؤالهم عن مصادرهم .. وماذا يقول هؤلاء إذا كان القانون يمنع الاعتداء على خصوصيات الناس واقتحام حياتهم الخاصة!.
< لا اعتقد ان مصر قد شهدت من قبل وفى اى عصر من العصور كل هذه الفضائح على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد ومنها احاديث وحكايات وتسجيلات اقل الجرائم فيها انها خيانة عظمى .. والأغرب من ذلك ان كل هذه القصص قد عبرت دون ان يتوقف عندها احد من المسئولين فى الدولة.
< نحن امام قضية شائكة جدا رغم الصخب والضجيج الذى احاط بها فى الشارع المصرى، وللأسف فإننا لم نجد صوتا يضعها فى السياق الصحيح .. وهنا ينبغى ان نتوقف عند عدد من النقاط :
< إذا كان هناك تنسيق بين اجهزة الأمن القومى واجهزة الإعلام التى قامت بنشر وإذاعة هذه التسجيلات فهذا لا يدخل ابدا فى العمل الصحفى من الناحية المهنية بل هو خلط للأوراق بين اجهزة مسئوليتها السرية واخرى مسئوليتها العلنية .. وهذا التداخل فى الأنشطة لا يتناسب مع قدسية انشطة الأمن القومى او مسئوليات النشاط الإعلامى ..
< إذا كانت هذه التسجيلات قد حملت الإدانة للبعض وتشويه صورة البعض الآخر فإن المسئولية الوطنية تفرض التحقيق فى كل ما جاء فيها من الوقائع والملابسات لأن فيها ـ كما قلت ـ ما يدخل فى نطاق الخيانة العظمى .. وإذا كان البعض يرى فيها انجازا إعلاميا عبقريا فإن فيها ايضا تجاوزات اخلاقية لا ينبغى السكوت عليها.
< ان الخلط بين منظومة العمل الإعلامى وانشطة الأمن القومى يسىء الى الاثنين معا .. فليس المطلوب من الصحفى ان يكون مخبرا وليس المطلوب من رجل الأمن القومى ان يتخلى عن سرية نشاطه ويصبح ما لديه من الأسرار مشاعا للجميع .. لقد رأى البعض فيما شاهده المصريون من احاديث ومحاورات وتسجيلات معجزة إعلامية خطيرة ولو اننا افترضنا هذا جدلا بمنطق السبق فهى جريمة فى عالم الأخلاق.
< ان هناك إحساسا لدى كثير من المصريين ان ما شاهدوه على الشاشات وصفحات الجرائد كان امرا مقصودا وتقف وراءه اسباب كثيرة كلها تدخل فى نطاق التصفيات السياسية، ولكن المؤكد انها تركت ظلالا كثيفة على الحياة الخاصة للمواطن المصرى .. كيف يأمن هذا المواطن ألا يجد فى حقيبة احد الصحفيين تسجيلا او صورة تهدد اسرار حياته وهى حق مصون بمواد الدستور .. كيف لا يجد نفسه ضحية مؤامرة رخيصة لتشويه صورته وإفساد حياته .. وفى ظل حالة الفوضى والانفلات التى يعيشها الإعلام المصرى وامام آلاف القنوات المفتوحة على الإنترنت وامام ملايين التليفونات المحمولة التى تنقل كل شىء لا يجد الإنسان جدارا يحميه من هذا الطوفان ..
إن الشىء المؤكد ان مؤسسات الدولة المصرية مؤسسات عريقة تحكمها الأخلاق والضمائر وتمثل شعبا متحضرا مهما عصفت به الظروف الصعبة والحياة القاسية إلا انه لم يتخل يوما عن مجموعة من الثوابت التى وضعته دائما فى مقدمة الشعوب الراقية .
< والغريب فى الأمر ان البعض مازال يتحدث عن الضمير الصحفى وامانة المهنة وقدسية الرسالة وماذا يفعل مواطن عادى حاول ان يقول رأيا او يعترض على شىء ووجد نفسه محاصرا بعشرات التسجيلات التى تسربت الى غرفة نومه، وما الذى يضمن الا تكون اشياء ملفقة من الاعيب التكنولوجيا الحديثة .. ان المطلوب من اجهزة الأمن القومىـ ولا احد ينكر دورها ومسئوليتهاـ ان تعلن عدم مسئوليتها عن هذا الكم الرهيب من التسجيلات التى اقتحمت حياة المصريين عبر الشاشات والصحف او ان تؤكد ان ما نشر وما اذيع منها سوف يجد مكانا له امام العدالة .. وإذا برأت هذه الأجهزة نفسها من المسئولية فعلينا ان نمسك برقاب من روجوها ونسألهم امام القضاء: من أين جئتم بكل هذه القصص والحكايا؟!
..ويبقى الشعر
لوْ أنـَّنـَا .. لمْ نـَفـْتـَرقْ
لبَقيتُ نجمًا في سَمائِكِ ساريًا
وتـَركتُ عُمريَ في لهيبكِ يَحْترقْ
لـَوْ أنـَّنِي سَافرتُ في قِمَم ِ السَّحابِ
وعُدتُ نـَهرًا في ربُوعِكِ يَنطلِقْ
لكنـَّها الأحلامُ تـَنثــُرنـَا سرابًا في المدَي
وتـَظلُّ سرًا .. في الجوَانح ِ يَخـْتنِقْ
لوْ أنـَّنـَا .. لمْ نـَفـْتـَرقْ
كـَانـَتْ خُطانـَا فِي ذهول ٍ تـَبتعِدْ
وتـَشـُدُّنا أشْواقـُنا
فنعُودُ نـُمسِكُ بالطـَّريق المرتـَعِدْ
تـُلقِي بنـَا اللـَّحظاتُ
في صَخبِ الزّحام كأنـَّنـا
جَسدٌ تناثـَرَ في جَسدْ
جَسدَان في جَسدٍ نسيرُ .. وَحوْلنـَا
كانتْ وجوهْ النـَّاس تجَري كالرّياح ِ
فلا نـَرَي مِنـْهُمْ أحدا
مَازلتُ أذكرُ عندَما جَاء الرَّحيلُ ..
وَصاحَ في عَيْني الأرقْ
وتـَعثــَّرتْ أنفاسُنـَا بينَ الضُّـلوع
وعَادَ يشْطـرُنا القـَلقْ
ورَأيتُ عُمريَ في يَدَيْكِ
رياحَ صَيفٍ عابثٍ
ورَمادَ أحْلام ٍ.. وَشيئـًا مِنْ ورَقْ
هَذا أنا
عُمري وَرقْ
حُلمِي ورَقْ
طفلٌ صَغيرٌ في جَحيم الموج
حَاصرَه الغـَرقْ
ضَوءٌ طريدٌ في عُيون الأفـْق
يَطويه الشـَّفقْ
نجمٌ أضَاءَ الكونَ يَومًا .. واحْتـَرقْ
لا تـَسْألي العَينَ الحزينة َ
كـَيفَ أدْمتـْها المُقـَلْ ..
لا تـَسْألِي النـَّجمَ البعيدَ
بأيّ سرّ قد أفـَلْ
مَهمَا تـَوارَي الحُلمُ فِي عَينِي
وَأرّقنِي الأجَلْ
مَازلتُ المحُ في رَمادِ العُمْر
شَيئـًا من أمَلْ
فـَغدًا ستنـْبـتُ في جَبين ِالأفـْق
نَجماتٌ جَديدة
وَغدًا ستـُورقُ في لـَيالِي الحزْن
أيَّامٌ سَعِيدة ْ
وغدًا أراكِ عَلي المدَي
شَمْسًا تـُضِيءُ ظلامَ أيَّامي
وإنْ كـَانَتْ بَعِيدةْ
لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ
حَملتـْكِ في ضَجر الشـَّوارع فـَرْحتِي ..
والخوفُ يُلقينِي عَلي الطـُّرقاتِ
تتمَايلُ الأحلامُ بينَ عُيوننـَا
وتـَغيبُ في صَمتِ اللــُّـقا نبضَاتِي
واللـَّيلُ سكـّيرٌ يُعانِقُ كأسَه
وَيَطوفُ مُنـْتـَشِيًا عَلي الحانـَاتِ
والضَّوءُ يَسْكبُ في العُيُون بَريقـَه
وَيهيمُ في خَجل ٍ عَلي الشُّرفـَاتِ ..
كـُنـَّا نـُصَلـّي في الطـَّريق ِ وحَوْلـَنا
يَتنَدَّرُ الكـُهَّانُ بالضَّحكـَاتِ
كـُنـَّا نـُعانِقُ في الظـَّلام دُموعَنا
والدَّربُ مُنفطـٌر مِنَ العَبراتِ
وتوقـَّفَ الزَّمنُ المسافِرُ في دَمِي
وتـَعثـَّرتْ في لـَوعةٍ خُطوَاتي
والوَقتُ يَرتـَعُ والدَّقائِقُ تـَخْتـَفي
فنـُطـَاردُ اللـَّحظـَاتِ .. باللـَّحظـَاتِ ..
مَا كـُنتُ أعْرفُ والرَّحيلُ يشدُّنا
أنـّي أوَدّعُ مُهْجتِي وحيَاتِي ..
مَا كانَ خَوْفِي منْ وَدَاع ٍ قدْ مَضَي
بَلْ كانَ خوْفِي منْ فِراق ٍ آتي
لم يبقَ شَيءٌ منذ ُكانَ ودَاعُنا
غَير الجراح ِ تئنُّ في كلِمَاتي
لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ
لبَقِيتِ في زمن ِ الخَطِيئـَةِ تـَوْبَتِ
وجَعَلتُ وجْهَكِ قبْلـَتِي .. وصَلاتِي
قصيدة لوأننا لم نفترق سنة 1998
نقلاً عن جريدة " الأهرام "