لا بد أن اعترف بضعفى الشديد أمام جامعة القاهرة ليس فقط لأننى واحد من ابنائها ولكن لأننى كنت دائما اشعر أنها الجامعة الأم تاريخا ودورا وتأثيرا .. جامعة القاهرة ليست فقط الأساتذة والتاريخ والمسئولية والدور ولكنها المكان ،والمعنى مازال مبناها العتيق شاهدا على عظمة هذا الوطن .. وعلى امتداد السنوات الماضية كنت امتنعت عن إقامة أمسيات شعرية أمام غياب الأمن وعدم الإستقرار . ولكننى لم أستطع أن أعتذر عن دعوة الصديق د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة عن لقاء مع اساتذتها وطلابها فى قاعة المحاضرات الكبرى أبرز وأقدم المنشآت فى الجامعة العريقة..
كانت ليلة من ليالى الفكر والشعر والتاريخ نواب رئيس الجامعة وعمداء معظم كلياتها ود. محمود السقا الفقيه ورجل القانون الشهير والأستاذ بكلية الحقوق والدكتور حامد طاهر الشاعر والأديب ونائب رئيس الجامعة الأسبق .. وحشد كبير من الطلاب ملأ أرجاء القاعة العتيقة ..
ما بين الشعر والسياسة .. وأحلام الشباب ودورهم الغائب .. وما بين قضايا الدين والإعلام وما بين نكسة 67 وجيلها الثائر وثورة يناير وأجيالها المحبطة دار حوار طويل .. قضايا كثيرة طافت بنا وطفنا معها فى رحاب الجامعة .
< كانت البداية عن الفارق بين الأجيال قلت أن اسوأ الأجيال حظا كان جيل النكسة الذى ارتفعت به أحلامه الى أبعد نقطة فى سماء الكون ووجد نفسه يعيش مرارة الهزيمة أمام حلم كبير انتهى إلى جرح لم يفارق هذا الجيل ..
رغم مرارة الهزيمة خرج هذا الجيل فى مظاهرات 68 واستطعنا أن نتجاوز جراحنا ونتغلب عليها ولم ننسحب من الحياة هناك من هاجر ومن سافر ومن تغرب ولكن هناك من صمد وتحدى الظروف وأصر على البقاء وتحقيق احلامه .. أن الإنسان قادر دائما على أن يحقق حلمه إذا امتلك الصبر والوعى والإرادة كنا بسطاء وجئنا من اعماق ريف مصر واستطعنا أن نثبت وجودنا وسط هذا الزحام الرهيب ..
كان أول سؤال دار فى رأسى وانا اضع أقدامى لأول مرة فى قاهرة المعز: أين مكانك وسط هذا التكدس وهذا الزحام وهذه المواهب الفذة .. كانت القاهرة فى الستينيات تضىء بعشرات المصابيح الفكرية والثقافية فى كل الوان الإبداع ولو اننى حاولت ان اذكر الأسماء فى ذلك الوقت فإن الصفحات لا تكفى .. كان الزحام شديدا فى كل الأماكن ورغم هذا قاومنا واستمرت بنا ومعنا رحلة الأحلام رغم كل الانكسارات التى احاطت بنا والظروف الصعبة التى واجهتنا .. وقلت لشباب الجامعة انا عاتب عليكم فى أشياء كثيرة أنتم اصحاب ثورة يناير وهى ثورة حقيقية ولا تسمعوا من يدعى غير ذلك، ان هذه الثورة حق مشروع لشباب هذا البلد وإذا كانت هناك بعض الأبواق التى مازالت تعيش فى ظلام الماضى فهى عصابة تدافع عن مصالحها ووجودها .. كما أن ثورة يونيه كانت امتدادا لثورة يناير وتصحيحا لها وإذا لم تقم ثورة يناير هل كان من الممكن أن تقوم ثورة يونيه وعلى أى أساس ..
أن ثورة يناير تعنى ان هناك جيلا تحرر من سطوة الماضى وان هذا الجيل هو الذى سيصنع مستقبل هذا الوطن وان الرموز الحالية فى كل المجالات من الأجيال السابقة سوف تختفى تماما فى السنوات القادمة بحكم العمر والسن والتغيير وأن هذا البلد سيكون كاملا بين يديكم ويجب ان تستعدوا لهذه اللحظة من الآن..أن أمام الأجيال الشابة فرصا كثيرة لأن تتعلم وتنتج وتبدع وتشارك وعليها ان تؤهل نفسها بالقدرات والمواهب لتكون قادرة على قيادة السفينة اذا كان جيل النكسة قد عانى مرارتها فأن نفس الجيل شهد بعد سنوات قليلة اكبر نصر في تاريخ هذه الأمة وهو نصر أكتوبر الذى أعاد للأمة كرامتها امام العالم كله.
حين جاء الحديث عن العلاقة بين الدين والسياسة .. قلت إن الخلط بين السياسة والدين جريمة كبرى لأن للدين قدسيته وهو علاقة خاصة جدا بين الإنسان وخالقه .. والسياسة مستنقع كبير فيه كل التناقضات ولا ينبغى أن نخلط الماء العذب بالمياه الملوثة .. إن استخدام الدين فى السياسة أمام حشود من الأمية وغياب الوعى والتداخل بين أمور الدنيا والآخرة يشوه تلك العلاقة الأزلية التى صاغتها كتب سماوية نزلت من السماء لهداية البشر ..
وقلت يجب أن ترفضوا كل اشكال الوصاية الفكرية لأنها اسوأ أنواع الاحتلال .. لا تقبلوا الوصاية من احد حتى ولو كان يتحدث بأسم الدين فليس من حق بشر أن يدعى انه اكثر ايمانا وقربا من الله .. واذا سألك عبادى عنى فإنى قريب .. إن الله يسمعنا جميعا .. ان الوصاية الفكرية حتى ولو كانت بأسم الأديان تتعارض تماما مع كل ما جاءت به الأديان وعليكم ان ترفضوا كل أنواع الوصاية حتى وصاية الآباء لأن الإنسان العاقل لا يتمنى ان يكون ابنه نسخة منه .. لكل شخص ظروفه ومكوناته ولكل جيل المناخ الذى ظهر وعاش فيه وتأثر به .
ان السياسة مستنقع كبير ولا ينبغى أن يصبح الدين أحد ضحاياها .. والغريب أنها اصبحت الآن وعاء يسيطر على كل شئ فى الفكر والثقافة والمعتقدات رغم انها جزء ضئيل من الفكر الإنسانى ومن الخطأ ان يخضع كل شئ لهذا المستنقع المخيف لقد عانينا تجربة مريرة بسبب الخلط بين الدين والسياسة وكانت محنة الإخوان المسلمون وتجربتهم الفاشلة في الحكم درسا لنا جميعا ينبغى ان نتعلم منه حتى لا نفسد الاثنين معا الدين والسياسة ما لله لله .. وما لقيصر لقيصر .. والخلط جناية كبرى بين ماء النهر ومياه المستنقعات .
سألونى هل فعلا انتهى زمن الشعر كما يرى البعض واننا نعيش زمن الرواية؟ قلت لا أعتقد أن زمان الشعر انتهى فى عالمنا العربى لأننا نتحدث عن اقدم فنون العرب ومازال للشعر عشاقه ومحبوه ومازال له دوره وتأثيره فى الإنسان العربى .. لقد انتشرت هذه المقولة بعد حصول كاتبنا الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الرواية ومنذ مئات السنين لدينا قامات شعرية تستحق ما هو اكبر من نوبل ابتداء بالمتنبى وانتهاء بشوقى .. إن أخطر ما يواجه الشعر الآن هو انحدار الذوق العام وانتشار الامية وهذه اسباب ليس للشعر علاقة بها .. انها متغيرات اجتماعية وثقافية ادت الى تراجع المستوى الثقافى وانسحاب الفنون الرفيعة ومنها الشعر .
سألونى عن الشعر والغناء وام كلثوم قلت كان عبد الوهاب يقول ان ام كلثوم اعظم واكبر فاترينة تعرض فيها الألحان والكلمات وهذه حقيقة ولم يوجد صوت يغنى الشعر كما غنته ام كلثوم .. وقد كان من سوء حظى اننى لم اسمع كلماتى من سيدة الغناء العربى ولكن كان من حظى ان مسرحياتى قدمها نجوم المسرح الكبار على المسرح وهم سميحة ايوب وعبد الله غيث ومحمود ياسين ويوسف شعبان وجلال الشرقاوى وفهمى الخولى وهانى مطاوع وان كانت تجربتى مع كاظم الساهر جيدة هذا بخلاف اللحن الجميل لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ومحمد الموجى فى قصيدة «فى عينيك عنوانى» التى غنتها سمية قيصر منذ سنوات وان كنت اعتز كثيرا بأن كلماتى يرددها جيش مصر كل صباح في نشيد الجيش “ رسمنا على القلب وجه الوطن”الذى لحنه الموسيقار الكبير الراحل كمال الطويل.. لا شك ان غناء الشعر يعتبر شيئا رائعا بشرط ان يجد الصوت واللحن المناسب .
سألونى عن بداياتى وكيف كان المشوار والرحلة تحدثت عن كتاب شهير كان وحده يكفى لإعداد موهبة شعرية فى بدايتها وهو كتاب المنتخب من الأدب العربى وقدمه عميد الأدب العربى د.طه حسين والأديب الكبير أحمد أمين .. ويضم نماذج رائعة وفريدة من مختارات الشعر والنثر والقصص والخطابة فى الأدب العربى فى كل العصور، وقد طلب د. جابر نصار رئيس الجامعة ان يطبع الكتاب ويوزع مجانا على طلبة كلية دار العلوم واقسام اللغة العربية بالجامعة .. واعلن رئيس الجامعة ان هناك مطبعة جديدة يجرى الأن انشاؤها فى جامعة القاهرة مع دار للنشر ستقوم بطبع كل المطبوعات والأنشطة الثقافية التى تخص الجامعة اساتذة وطلابا .
سألونى كيف ترى مستقبل مصر .. قلت : انا متفاءل بالمستقبل وبعد ان تخلص المصريون من رئيسين وقاموا بثورتين فلا بديل امامهم غير ان ينطلقوا نحو المستقبل وعلى الشباب ان يعد نفسه لكى يحمل رسالة هذا المستقبل وأمانته .. لقد اسقط شباب مصر حكما مستبدا وتخلصوا من فكر مستبد وعليهم الآن ان يحملوا هذا البلد الى تلك المكانة التى تليق به . لقد كان انجازا تاريخيا عظيما ان يرحل الإستبداد السياسى والإستبداد الفكرى معا وعلينا جميعا ان نوحد ارادتنا لكى نفتح طريقا آمنا للمستقبل إن مصر الآن تحارب الارهاب في كل الجبهات بقيادة الرئيس السيسى اقتصاديا وسياسيا وامنيا وان الرجل لا يدخر وسعا ولا يبخل بجهد لكى تعبر مصر من هذه المرحلة وعلى الشعب ان يقف معه ويسانده وليس امامنا غير ان نعمل وننتج ونبدع لأن هذا هو طريقنا للمستقبل الذى يليق بنا شعبا ووطنا وتاريخا.
كانت ليلة جميلة استعدت فيها ذكريات عمر مضى فى رحاب جامعة القاهرة حين كانت مزارا وموطنا من مواطن التنوير والتقدم لقد انجبت جامعة القاهرة المئات من المبدعين الكبار فى كل المجالات ادبا وفنا وفكرا وكانت دائما ساحة للحوار الخلاق .. ان الجهد الكبير الذى يقوم به د.جابر نصار رئيس الجامعة وكتيبة الأساتذة من أجل إعادة الدور الفكرى والحضارى والتنويرى سوف يؤتى ثماره قريبا بأن تعود الجامعة قلعة من قلاع الفكر الواعى والثقافة الجادة
..ويبقى الشعر
انتزعُ زمانكِ منْ زَمنِي
ينشَطرُ العُمرْ
تنزِفُ في صَدْري الأيامْ
تُصبحُ طوفـَانَـا يُغرقـُني
ينشَطرُ العالمُ من حوْلي
وجهُ الأيام. بِلاَ عينيْن
رأسُ التاريخِ. بلا قدَمينْ
تنقسمُ الشمسُ إلى نصفينْ
يذوبُ الضوءُ وراءَ الأُفقِ
تصيرُ الشمسُ بغير شعاعْ
ينقسمُ الليلُ إلى لَونينْ
الأسْودُ يعصفُ بالألوانْ
الأبيضُ يسقُطُ حتَّى القاعْ
ويقُولُ الناسُ دُموعَ وداعْ
اَنتزعُ زمانِكِ من زَمنِي
تتراجعُ كلُّ الأشياءْ
أذكرُ تاريخًا. جمَّعنَا
أذكر تاريخًا. فرَّقنَا
أذكرُ أحلاماً عشْناهَا بينَ الأحزانْ
أتلوَّن بعدَكِ كالأيامْ
في الصبح أصيرُ بلون الليل ْ
في الليَّل أصيرُ بلا ألوانْ
أفقدُ ذاكرَتِي رَغمَ الوهْمِ
بأنى أحيا كالإنسَانْ.
ماذَا يتبقى مِنْ قلبِي
لو وُزَّعَ يومًا في جَسدَينْ
مَاذا يتبقى مِنْ وجهٍ
ينشَطِرُ أمامِي فِي وجهَينْ
نتوحدُ شوقـًا في قلبٍ
يشْطـُرنا البُعدُ إلى قلَبينْ
نتجَمَّع زَمنًا في حُلمٍ
والدهرُ يُصرُّ على حُلمَينْ
نتلاقَى كالصبحِ ضياءً
يَشْطرُنا الليلُ إلى نِصفينْ
كلُ الأشياءِ تفرقـُنَا في زمنِ الخَوفْ
نهربُ أحيانـًا في دَمِنا
نهربُ في حزنٍ. يَهزِمُنا
ما زلتُ أقول
أن الأشجارَ وإن ذبـُلت
في زمنِ الخوفْ
سيَعودُ ربيعٌ يُوقظُها بينَ الأطلال
إن الأنهار وإن جَبُنتْ فى زَمنِ الزَّيفْ
سَيجىء زمانٌ يُحيِيهَا رغم الأغلالْ
مازِلتُ أقولْ.
لو ماتتْ كلُّ الأشْياءْ
سَيجىء زمانٌ يشعرنا أنَّا أحياءْ
وتثـُور قبورٌ سئمتنَا
وتَصيحُ عليهَا الأشلاءْ
ويموتُ الخوفُ. يموتُ الزيفُ. يموتُ القهر
ويسقطُ كلُ السُفهاءْ
لنْ يبقَى سَيفُ الضُّعفاءْ
سيموتُ الخوفُ وتجْمعُنا كلُ الأشياء
ذراتكِ تعبرُ أوطانًا
وتدورُ وتبحثُ عن قلبِي في كل مكانْ
ويعودُ رمادكِ لرمادي
يشتعلُ حَريقا يحملنَا خلفَ الأزمانْ
وأدورُ أدورُ وراءَ الأفقِ
كأني نارُ في بُركانْ
ألقِي أيامي بينَ يديكِ
همومَ الرحْلةِ والأحزان
تلتئمُ خلايا. وخلاَيا
نتلاقَى نبضًا وحنايا
تتجمًّع كلُّ الذراتْ
تصبحُ أشجاراً ونخيلاً
وزمانَ نقاءٍ يجمعُنا
وسَيصرخُ صمتُ الأمواتْ
تُنبتُ في الأرضِ خمائلَ ضوءٍ. انهاراً
وحقولَ أمانٍ في الطـُرقاتْ
نتوحدُ في الكونِ ظلالاً
نتوحدُ هدْياً. وضلالاً
نتوحدُ قُبحًا وجمالاً
نتوحدُ حسًا وخيالاً
نتوحدُ في كل الأشياءْ
ويموتُ العالمُ كى نبقَى
نحنُ الأحياءْ.
قصيدة «سيجئ زمان الأحياء» سنة1986