بينى وبين التاريخ علاقة خاصة جدا فهو من أهم المكونات الفكرية والثقافية.. ومازلت أتعامل مع التاريخ كأنه كائن حى يعيش وينبض ويحرك الأشياء والبشر.. أنا لا أؤمن بأن التاريخ يموت بل إنه يتجدد مع الزمن والبشر والحياة.. إن التاريخ ليس قبورا صامتة.. أو أحداثا انتهت أو صورا تراكمت عليها تلال الغبارا إن الأشخاص ربما تغيرت ولكن مسيرة الأشياء تأتى بأشخاص آخرين ويكمل الزمن دورته والتاريخ شاهد على ذلك..
> قلت أنا عاشق قديم للتاريخ وهناك فترات منه أتوقف عندها كثيرا فأنا أميل أكثر لسيرة البشر أكثر مما أميل لصور الحجر.. ولهذا أحب الوقوف كثيرا عند تاريخ المسلمين فى عصورهم الذهبية فى الأندلس أو ليالى بغداد ودمشق أو صلاح الدين فى القاهرة..أتوقف عند السير الذاتية للبشر كتابا ومبدعين وساسة لأنها أكثر نبضا وحياة أتوقف كثيرا عند مصر الأربعينيات وأرى فيها أخصب وأجمل فترات تاريخ مصر الحديث حيث الحريات والفن والإبداع والفكر والمعاصرة..
> فى الأيام الأخيرة بدأت على استحياء احتفالات ثورة ١٩١٩ وهى بكل المقاييس من الفترات المضيئة فى حياة المصريين ويكفى إنها فتحت الطريق نحو صحوة شعب استطاع أن يلحق بالعصر رغم كل الظروف التى صنعها الاحتلال الانجليزي وتركها على وجه الحياة فى مصر..
> لم تكن ثورة ١٩ منطقة الخلاف الوحيدة فى تاريخ مصر الحديث لقد اختلفنا حول ثورة عرابى وهل كانت ثورة أم كارثة ورغم أنها انتهت نهاية مؤسفة بسجن زعيمها ونفيه خارج بلاده وكان الاحتلال الانجليزي هو الثمار المرة التى جناها المصريون إلا أن إدانة عرابى تاريخيا كانت قاسية حتى إن أحمد شوقى أمير الشعراء هجاه فى قصيدة قاسية عند عودته من المنفى وهو يعانى خريف العمر وشيخوخة الزمن وهزيمة الفرسان..
> لم يكن الخلاف حول عرابى فقط فقد اختلفنا حول مصطفى كامل ومحمد فريد ووصل التشكيك إلى وطنية هذه الرموز ومواقفها.. إلا أن الخلاف الأكبر كان حول زعيم مراحل ثورة ١٩١٩ سعد باشا زغلول رغم أن هذه الثورة من أعظم مراحل التاريخ النضالي فى حياة المصريين.. إن ثورة ١٩ هى التى جاءت بواحد من أفضل دساتير مصر وهو دستور ٢٣ وهذه الثورة هى بداية تحرير الإرادة المصرية واتفاقية ١٩٣٦ وهى التى مهدت لتحرير المرأة المصرية وخروجها من زمن الحصار إلى زمن الحريات والتعليم والحياة الاجتماعية وكانت ثورة ١٩ أكبر فرصة تاريخية وحدت المصريين مسلمين وأقباطا فى إرادة شعبية حملت كل مشاعر الوطنية وأن الدين لله والوطن للجميع..
> اختلفنا على ثورة ١٩ وزعيمها سعد زغلول وقيل فيه ما قيل ورغم أن هناك كتابات كثيرة أنصفته وكتاب كبار دافعوا عنه وكان فى مقدمتهم عباس العقاد إلا أن سهاما كثيرة أصابت زعيم الأمة فى شخصه وسلوكياته ومواقفه وكان التجاهل والنكران هو كل ما حصده سعد زغلول فى نهاية مشواره النضالى من أجل مصر..
> لم تكن الثورات وحدها مناطق الخلاف بيننا فقد أطاحت هذه الخلافات بكثير من رموز العمل الوطنى والفنى والفكري والاجتماعي وقد اتسمت هذه الخلافات بالعنف الشديد فى تقييم الأدوار وتشويه بعضها كما حدث من شوقى مع عرابى أو ما حدث من العقاد والمازنى مع شوقى بعد ذلك أو ما حدث فى الكتاب الأسود ضد النحاس باشا.. وكانت المواجهة الكبرى بين ثورة يوليو وما سبقها من الأحداث والمواقف والرموز..
> إن الخطأ التاريخى الذى وقعت فيه ثورة يوليو أنها اعتبرت نفسها بداية تاريخ مصر وربما نهايته أيضا، ولهذا فرضت وصايتها على كل ما جاء قبلها من الأحداث والثورات والرموز كانت نقطة البداية هى الاتهامات التى لحقت بتاريخ الأسرة العلوية ابتداء بكبيرها محمد على مؤسس مصر الحديثة، وانتهاء بأخر ملوكها الذى حمل حقائبه وذكرياته ليقضى آخر أيامه فى ايطاليا..
> كان من أهم أخطاء ثورة يوليو التخلص من الأحزاب السياسية وهى بكل المقاييس كانت تجربة واعدة لبناء مجتمع حر وكان من توابع ذلك التخلص من رموز هذه الأحزاب، بل إن الوصاية الثورية لحقت برموز الفكر والأدب والفن كما حدث مع العقاد والسنهورى ورموز اليسار المصرى من الشيوعيين.. لا شك أن أسوأ مراحل تشويه التاريخ المصرى فى كل مراحله تقريبا جاءت من هذه الخصومة الشديدة بين ثورة يوليو وما جاء قبلها من أحداث.. وانقسم المصريون تاريخيا ما بين تيارات تدافع عن الماضى وأخرى تحاول استجداء الحاضر من أجل أدوار مشبوهة أو مصالح عابرة.. لم تتراجع الثورة فى محاولاتها تصفية الماضى بل إنها ارتكبت الأخطاء نفسها مع رفاق السلاح وشوهت نفسها بنفسها حين بدأ تهميش بل وعقاب رموزها كما حدث مع محمد نجيب ويوسف صديق والبغدادى وصلاح وجمال سالم وعبدالحكيم عامر وخالد محيى الدين وكمال الدين حسين ولم ينجو من هذا التهميش غير أنور السادات وحسين الشافعى: وكلاهما انحنى للعواصف حتى عبرت.. وأمام محاولات التشويه وتغيير أحداث التاريخ لجأ البعض من هذه الرموز إلى تبرئة نفسه فى مذكرات وهى سيرة ذاتية أكثر منها تاريخا يعتمد عليه.. حدث هذا مع مذكرات محمد نجيب.. والبغدادى وخالد محيى الدين وأن بقيت معظم الأحداث غامضة فى كل شىء.. كان من أخطر سلبيات ثورة يوليو فى تعاملها مع التاريخ ومع رموزها من رفاق السلاح أن الوثائق غابت والأدوار اختفت وتشوهت فى أحيان كثيرة..
> حاول الرئيس أنور السادات حين وصل إلى السلطة أن يحيى ما كان ويعيد لرموز الثورة حقهم التاريخى فكان الإفراج عن محمد نجيب أول رئيس لمصر الجمهورية وأن بقيت معظم الرموز بعيدة عن دائرة الضوء أمام الجحود أو الموت أو المرض أو النسيان..
> كان من أخطاء ثورة يوليو أنها كررت المواقف والأحداث فكما أدانت ما قبلها وجدت من يدينها فى عهد الرئيس السادات فكانت تصفية الحسابات بين الساداتية والناصرية، ثم كانت مرحلة تشويه كل شىء.. إن مواقفنا وأحكامنا مع التاريخ لم تراع أبدا قدسيته وحق الأجيال المختلفة فى أن تقرأ تاريخا حقيقيا للأحداث والرموز والوطن..
والآن نحن أمام صفحات كثيرة غائبة وأخرى مشوهة ومازالت هناك أحداث كبرى مجهولة الوثائق..
> هناك ثلاثون عاما من التجارب والأحداث التى عاشتها مصر وهى جميعا فى دائرة النسيان ومع رحيل أو صمت رموزها يصبح من الصعب بل والمستحيل الحديث عنها .. لقد شهدت هذه السنوات الطوال تقلبات كثيرة ما بين سياسات تغيرت ومجتمع شهد تحولات ضخمة فيها السلبيات والإيجابيات والكوارث فأين الشعب من ذلك كله؟!.
> هناك أحداث ضخمة مازال يحيط بها الغموض وكانت مصر شريكا فيها كما حدث فى كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل، وما حدث فى حرب أكتوبر وفى حرب الخليج وما شهدته المنطقة العربية من تغيرات فى السياسة وما تركه البترول من آثار اجتماعية وثقافية وحضارية على المنطقة كلها بما فيها مصر.. هناك القضية الفلسطينية وما أحاط بها من صراعات ومواقف وخلافات طوال ستين عاما وكلها مجهولة العنوان والأدوار والمواقف..
> إن الأخطر من ذلك كله تلك الأحداث التى نشهدها الآن شعوب هاجرت وعواصم سقطت ومؤامرات نجحت ولا أحد يعلم شيئا..
> هناك السياسات والتقلبات الاقتصادية ما بين تجارب متناقضة مع الاشتراكية أو الانفتاح أو الرأسمالية المتوحشة والزواج الباطل بين السلطة ورأس المال وبيع أصول الدولة فى برامج الخصخصة وتكوين طبقة جديدة وبيع أراضى الدولة..
> لا أحد يعرف ما حدث فى العلاقة بين الدولة وجماعات الإسلام السياسى والتى انتهت بكارثة وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة والصراع بين النخبة والإخوان وما حدث فى 25 يناير وهل كانت ثورة أم انتفاضة أم مؤامرة وأين حقائق ذلك كله لأن من حق أجيال شاركت فيها أن تبدى آراءها، خاصة أن أبواب الإدانة شملت الجميع..
> إن هذا يتطلب توثيق موقف الشعب ومساندة الجيش فى أحداث ثورة30 يونيو وهى كانت البداية لتصحيح مسار الأحداث فى مصر وخروج الإخوان من السلطة..
إن الشىء المؤكد أننا فى حاجة إلى مراجعات أمينة وصادقة لكل هذه الأحداث..
> لايمكن أن نتجاهل فى كل هذه الجوانب قضية الإرهاب والحرب التى خاضتها مصر ضد هذا الشبح الذى دمر أشياء كثيرة فى حياتنا وسالت دماء الشهداء على ربوع مصر كلها إن من حق الشعب أن يعرف ما جرى وأن يسجل الأحداث فى ذاكرة الوطن لأن دماء الشهداء يجب أن تبقى فى خيال أجيال قادمة.. إن مواجهة الإرهاب صفحة ينبغى ألا تطوى وينساها المصريون.. إن دماء شهداء قواتنا المسلحة والأمن المصرى والمدنيين الذين دافعوا عن أمن مصر وسلامتها يجب أن تعيش فى وجدان هذا الشعب..
> لا أدرى هل يصلح ما كتب أو سيكتب عن هذه الأحداث ليكون تاريخا له قدسيته ومصداقيته أم أنها خواطر عابرة سرعان ما تحملها رياح النسيان وتمضى.. والسؤال هنا.. من يملك الحقيقة لكى يكشف كل هذه الأدوار والأحداث وحتى لا يصبح تاريخ مصر مشاعا للهواة وأصحاب المصالح.. إن ما يكتب الآن لا يصلح أن يكون تاريخا لأن التاريخ يحتاج حقائق ووثائق وضمائر حية.. وهذه الأشياء لا تتوافر دائما..
> إننى هنا أقترح ضرورة الوقوف عند هذه القضية وهى من يكتب أحداث هذه الفترة التى نعيشها، وقد جمعت شواهد كثيرة أن أجزاء كثيرة من تاريخ مصر فى السنوات الأخيرة لم تسجل وربما ضاعت أو تشوهت، والمطلوب إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. نحن أمام أحداث كثيرة غامضة مازال رموزها أحياء وعلينا أن نستفيد منهم .. إن دوامة الأحداث ينبغى ابدأ ألا تنسينا قضية مهمة وخطيرة أن التاريخ جزء أصيل من ذاكرة الشعوب والخسائر فيه لا تعوض..
ويبقى الشعر
لماذا أراكِ على كلِّ شىء بقايا .. بقايا ؟
إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفـًا ..
وينسابُ عطـُركِ بين الحنايا ؟
لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ
فأجرى إليكِ .. وتأبى خُطايا ؟
وكم كنتُ أهربُ كى لا أراكِ
فألقاكِ نبضـًا سرى فى دمايا
فكيف النجومُ هوت فى الترابِ
وكيف العبير غدا .. كالشظايا ؟
عيونك كانت لعمرى صلاة ً ..
فكيف الصلاةُ غدت .. كالخطايا ؟
لماذا أراكِ وملءُ عُيونى دموعُ الوداعْ ؟
لماذا أراكِ وقد صرتِ شيئـًا
بعيدًا .. بعيدًا .. توارى .. وضاعْ ؟
تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ
أحسُّـك نبضًا
وألقاك دفئـًا
وأشعرُ بعدكِ .. أنى الضياعْ
إذا ما بكيتُ أراكِ ابتسامهْ
وإن ضاق دربى أراكِ السلامهْ
وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ
تضىء عيونـُكِ .. خلف الغمامهْ
لماذا أراكِ على كل شىءٍ
كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ
كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ
وأنى خـُلـِقـْتُ لهذا السفرْ ..
إذا كنتُ أهرب منكِ .. إليكِ
فقولى بربكِ .. أين المفـْر ؟
« قصيدة بقايا سنة 1983»
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع