توقيت القاهرة المحلي 15:58:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قضايا التجديد بين الدين والثقافة

  مصر اليوم -

قضايا التجديد بين الدين والثقافة

بقلم : فاروق جويدة

مازلت أراهن على الجوانب المضيئة فى ثقافة مصر رغم كل الضباب الذى يحيط بها من كل جانب..لقد تعرضت الثقافة المصرية لأكبر عملية تخريب فى تاريخنا الحديث ما بين الإسفاف والتهميش وتشويه كل الرموز والثوابت, إن تجريف الثقافة المصرية قام على أساس خطة مدروسة فرغتها من أعظم وأجمل ما فيها وهى القيمة والرسالة والدور.. إن الشىء الغريب الذى يثير الانتباه الآن هو التركيز على قضية تجديد الخطاب الدينى واتجهت كل السهام إلى الأزهر الشريف وشيخه الجليل رغم أن الخطاب الدينى جزء من قضية أهم وأخطر وهى واقع الثقافة المصرية وما وصل إليه من التراجع وغياب القضية وفقدان الهدف والهوية..

إن القضية الحقيقية هى الثقافة وليس الخطاب الدينى فقط وهذا يعنى إننا أمام أزمة اكبر بكثير من خطبة موحدة للمساجد أو تشويه ثوابت الدين على الفضائيات أو الإساءة لرموز أصبحت الآن فى رحاب الله.. نحن أمام كيان ثقافى ضخم نراه يترنح بيننا منذ سنوات أمام مؤامرات مرسومة ومؤسسات فاسدة ومسئولين لم يدركوا القيمة الحقيقية لثقافة مصر بكل تاريخها وجذورها ورموزها الحية..

كان الخطأ الأول فى طرح القضية هو الفصل التعسفى ما بين قضايا الدين وقضايا الثقافة رغم أن دور المثقفين المصريين فى خدمة القضايا الدينية استنارة واجتهاداً خرج من بين عدد من رموزنا فى الفكر..من يستطيع أن ينكر دور العقاد وكتاباته الفكرية فى قضايا الدين ابتداء بالرموز وانتهاء بفتح أبواب الاجتهاد..لم تكن عبقريات العقاد ودراساته عن شخصيات ورموز إسلامية عظيمة ولكنها كانت حوارا فى الفكر والتاريخ والقيمة ولم تكن اجتهادات طه حسين فى قضايا الدين حتى فى الشعر الجاهلى وما أثاره من الجدل إلا محاولات لفتح آفاق أوسع للحوار حتى فى المناطق الشائكة من العقيدة.. ولم تكن كتابات خالد محمد خالد وهو المفكر الإسلامى الكبير عن الإسلام التاريخ والرسالة ولكنه كان يناقش قضايا الحرية والفكر ويقدم رموزاً إنسانية رفيعة فى السلوك والمواقف والأخلاق..وحين كتب د.نظمى لوقا المسيحى عن رسول الإسلام كان يتناول شخصية إنسانية بعيدا عن التعصب والكراهية..وفى سياق آخر وجدنا عدداً من المفكرين المصريين يناقش قضايا الإنسان من خلال منظور دينى كما فعل عبد الرحمن الشرقاوى وأمين الخولى وبنت الشاطئ..كان هؤلاء جميعا يناقشون القضايا الدينية كقضايا فكر وإنسان ولهذا كانت أفكارهم اكثر سماحة وأوسع أفقا من هؤلاء الذين انحصرت أفكارهم فى خنادق فكرية مغلقة ومظلمة..

أريد أن أقول إن الثقافة المصرية افتقدت هذه الرؤى الشاملة فى قضايا الدين وكانت النتيجة إننا خسرنا الثقافة وخسرنا الدين معا..إن الثقافة كانت دائما تمنح قضايا الدين رحابة فى الفكر ورقيا فى الحوار وكانت قضايا الدين تمنح الثقافة شيئا من نسيجها الروحى أخلاقا ورقيا وإبداعا.. ومنذ حدث هذا الانفصال مع رحيل نخبة من رموز مصر الثقافية افتقدنا هذه الروح فى معاركنا واجتهاداتنا ومستوى الحوار بيننا..إن نموذجا رفيعاً مثل خالد محمد خالد جمع بين رحابة الفكر وعمق الإيمان وكان صوتا من أصوات الحرية المؤثرة..

كان من الخطأ أن يتصور البعض أننا قادرون على تجديد الخطاب الدينى وسط هذا المناخ الثقافى المترهل والمنقسم على نفسه وسط مؤسسات ثقافية شاخت وهى تتبادل المصالح والشللية وتتصور انك لست معى فأنت ضدى..إن بقايا النخبة الثقافية التى تحكمت زمنا فى الثقافة المصرية بعد رحيل الكبار تصورت أن بقاءها فى مواقعها ومصالحها مرتبط بتصفية كل من يختلف عن مسارها وهنا انسحبت حشود الشباب من الساحة خاصة أصحاب المواهب الحقيقية الذين لم يجدوا لأنفسهم مكانا وسط هذا الضجيج وهذه المزايدات..

لابد أن نعترف بأن واقع الثقافة المصرية يعيش محنة قاسية..فمن حيث الدور تراجعت ومن حيث القيمة لم تعد كما كانت بل إنها سقطت فى كثير من جوانبها فى دوامات الإسفاف والسطحية وغياب الرؤى..

حين كتب الكبار فى قضايا الدين مثلما فعل طه حسين أو العقاد أو هيكل باشا أو مصطفى عبدالرازق كتبوا بحب وترفع, وهناك فرق كبير بين من اختاروا الترفع طريقا ومن جعلوا الإسفاف والسقوط منهجا وسبيلاً..إن مشكلة الثقافة المصرية الآن هو اختلاط الحابل بالنابل فى أكثر القضايا حساسية وتعقيدا وهى قضايا الدين..هناك فرق بين الصراحة والبجاحة وفرق كبير بين حرية الفكر وحرية التجريح والتشويه والإساءة..

إن الثقافة المصرية تعانى الآن من أعراض مرضية كثيرة..

لقد تراجعت قيمة الثقافة ودورها فى حياة المصريين ابتداء بحالة الغياب التى تعانى منها مؤسسات الدولة وانتهاء بتهميش الثقافة فى اهتمامات السياسة العامة للدولة..إن الثقافة الآن تأتى فى آخر القائمة

إن حصاد الثقافة المصرية إبداعا وتأثيرا وقيمة يعيش الآن أسوأ حالاته لقد اختفى دور الدولة فى مجالات كثيرة ومنها النشر والسينما والمسرح والغناء والعلاقات مع العالم الخارجى لقد تركت الدولة الثقافة للفضائيات والقطاع الخاص وكانت النتيجة هذا الفن الهابط الذى يحاصر الأجيال الجديدة حتى اعتادت عليه, ومن يراجع هوجة مسلسلات رمضان هذا العام يدرك الحقيقة وهذا يسرى على سوق الغناء والكتاب والأنشطة الثقافية العامة فى الدولة..

هناك قلة قليلة من ماضى الثقافة المصرية فى عصرها الذهبى مازالت تعيش بيننا وهؤلاء لا أحد يسمع عنهم رغم إننا أحوج ما نكون لأن نتعلم منهم ونستفيد من تجاربهم..للأسف الشديد هناك إهمال كامل لهؤلاء حيث لا نراهم على الشاشات ولا نسمعهم فى الندوات ولا نلقاهم فى المناسبات وهنا أتساءل أين المناسبات الثقافية التى كنا نشاهد فيها هذه الرموز وكيف نتركهم يعانون الإحباط والتهميش ولماذا لا نعقد لهم ندوات يتجمع فيها الشباب بدلا من حفلات التحرش والمخدرات ومسلسلات العفاريت ولم يكن غريباً الا يكون هناك برنامج ثقافى أو فنى أو فكرى يليق بالثقافة المصرية وتاريخها الحافل فى كل وسائل الإعلام..

إن الخصومة القائمة حاليا بين أصحاب الفكر الدينى وأصحاب الفكر الثقافى إذا جاز هذا التقسيم خصومة مفتعلة لأن الدين والثقافة هما الجناحان اللذان يحلق بهما العقل والوجدان البشرى..ومجتمع بلا ثقافة عصر من عصور الجهالة, وأوطان بلا دين أجساد بلا روح وقد اعتدنا دائما على هذا التلاحم الخلاق بين أهل الدين وأهل الثقافة وان كلاً منهما له مجاله وساحته التى يقوم بدوره فيها..

إن الصراع القائم حاليا بين من يشوهون الدين ومن يرجمون الثقافة يهدرون القيمة الكبرى التى قام عليها تاريخ مصر الحضارى والثقافى والدينى, إن مصر الأزهر وجامعة القاهرة والعقاد وطه حسين وشوقى والشيخ شلتوت ومحمد عبده كانت منارة بكل هؤلاء ولن تقوم على طرف واحد..

إن إهمال الثقافة بهذه الصورة المجحفة يهدد مستقبل أجيال من الشباب تتلقى الآن ثقافتها وأفكارها من خلال التكنولوجيا الحديثة ومدارس اللغات والتاريخ المزيف, وسوف يجئ يوم علينا نندم فيه على ذلك كله حين نجد لغتنا العربية لغة القرآن وقد صارت غريبة بيننا وحين لا يعرف أبناؤنا شيئا عن تاريخ وطنهم وحين يختفى شىء عزيز يسمى الانتماء وحين يجلس الأبناء فى الأسرة كل واحد يتحدث لغة غير لغة أخيه وأمه وأبيه وحين تجتاحنا فنون وافدة فى الغناء والسينما والسلوكيات..لابد أن نكون على علم بما يجرى فى مدارسنا وما يدرسه أبناؤنا فى مناهج التعليم فى المدارس والجامعات الأجنبية وان نتابع ما يجرى لعقول أبنائنا من عمليات غسيل على النت والفيس بوك..هناك دول تخاف على أجيالها القادمة ولهذا تدرس مؤثرات كل هذه الثقافات الوافدة..

مازالت الثقافة المصرية تقوم على ثوابت تاريخية يمكن أن ننطلق منها إلى واقع ثقافى أفضل..هناك مكتبات عريقة وجامعات صنعت التاريخ وهناك مبدعون كبار لابد أن نحملهم بعيدا عن ساحات التهميش والتجاهل وهناك نماذج رفيعة فى أنشطة ثقافية مضيئة وناجحة وتجارب ينبغى أن نتوقف عندها..إن تجربة جابر نصار فى إحياء دور جامعة القاهرة تجربة ينبغى أن توضع فى الاعتبار فقد تحولت الجامعة من قاعدة لتصدير التخلف والتطرف إلى ملتقى ثقافى وفكرى وفنى رفيع..ولا ننسى تجربة د.ايناس عبد الدايم فى دار الأوبرا التى أضاءت قلب القاهرة وأصبحت مزارا لكل عشاق الفن الجميل..لا ننسى مكتبات القاهرة الكبرى التى تحشد الشباب كل يوم..وهناك مراكز ثقافية أغلقت أبوابها مثل قصور الثقافة الجماهيرية ويجب أن تعود لها الأضواء وهناك مهرجانات يجب أن تقود مسيرة الفن الراقى والإبداع الجميل..لو فتحت مراكز الثقافة الحقيقية أبوابها فإن ثقافة مصر سوف تعود لعصرها الذهبى وان تعود مرة أخرى إلى قائمة الأولويات فى سلطة القرار.. إن قضية تجديد الخطاب الدينى تحتاج إلى ارض صالحة ومناخ ثقافى وفكرى يعيد للثقافة المصرية قيمتها ودورها التاريخى.

المصدر : صحيفة الأهرام

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قضايا التجديد بين الدين والثقافة قضايا التجديد بين الدين والثقافة



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 01:37 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق مختلفة لاستخدام المرايا لتكبير المساحات الصغيرة بصرياً
  مصر اليوم - طرق مختلفة لاستخدام المرايا لتكبير المساحات الصغيرة بصرياً

GMT 00:20 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يؤكد أنه سيقر بهزيمته إذا كانت الانتخابات عادلة
  مصر اليوم - ترامب يؤكد أنه سيقر بهزيمته إذا كانت الانتخابات عادلة

GMT 13:46 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

جيل ستاين تؤكد أن خسارة هاريس للأصوات بسبب دعم "إبادة غزة"
  مصر اليوم - جيل ستاين تؤكد أن خسارة هاريس للأصوات بسبب دعم إبادة غزة

GMT 14:45 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

أحماض تساعد على الوقاية من 19 نوعاً من السرطان
  مصر اليوم - أحماض تساعد على الوقاية من 19 نوعاً من السرطان

GMT 12:46 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد امام يعتبر والده "الزعيم" هو نمبر وان في تاريخ الفن
  مصر اليوم - محمد امام يعتبر والده الزعيم هو نمبر وان في تاريخ الفن

GMT 15:53 2018 الإثنين ,12 آذار/ مارس

إستياء في المصري بسبب الأهلي والزمالك

GMT 10:53 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على وصفات طبيعية للعناية بالشعر التالف

GMT 02:56 2018 الأربعاء ,04 تموز / يوليو

الفنانة ميرنا وليد تستعد لتقديم عمل كوميدي جديد

GMT 19:15 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

سامح حسين يكشف عن الأفيش الأول لـ"الرجل الأخطر"

GMT 13:48 2018 السبت ,05 أيار / مايو

سيارة بدون "عجلة قيادة ودواسات" من سمارت
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon