أكثر من ثلاث سنوات مضت ونحن نتحاور ونتجادل ونختلف حول قضية الخطاب الدينى ولا اعتقد اننا قد وصلنا الى النتائج المطلوبة حول هذه القضية..ان الحوار لم يثمر حتى الآن ولا نستطيع ان ندعى ان واقع الخطاب الدينى قد اصبح افضل مما كان عليه..
هناك اسباب كثيرة جعلت النتائج مستعصية حتى وصلنا الى ما يشبه الطريق المسدود امام صراعات وخلافات تجاوزت منطقة الحوار ودخلت بنا الى متاهات اخرى من الانقسامات والصراعات بل والتصفيات الفكرية والعقائدية
لا ادرى ما هى الأسباب التى توقفت عندها قضية إصلاح الخطاب الدينى..
- هل لأن الدعوة لذلك كانت رسمية انطلقت من كواليس السلطة والقرار ومثل هذه القضايا كان الأفضل دائما ان تخرج من بين اهلها ومريديها.. لقد جاءت الدعوة الى إصلاح الخطاب الدينى من الدولة فى بداية الأمر ثم انطلقت بعد ذلك الى المؤسسات الثقافية والدينية, ويبدو ان القناعات لم تكن كافية لمواجهة هذه القضية خاصة انها ارتبطت بمواجهات اكبر واشمل مع تيارات الإسلام السياسى ولم يخل الأمر من هذا البعد السياسى الذى جعل القضية على درجة من الحساسية بين اطياف فكرية كثيرة..ان البعض لم يقتنع تماما بالسياق الذى جاء فيه طرح القضية لأسباب سياسية والبعض الآخر ولأسباب سياسية ايضا بالغ فى الحماس والإندفاع مما فتح مجالا اوسع للصدام وليس الحوار..
- كان ينبغى ان يبدأ الحوار حول إصلاح الخطاب الدينى من رجال الدين اولا لأن اهل مكة ادرى بشعابها ولكن اعدادا كبيرة من المتطوعين تجاوزوا فى الهجوم على رجال الدين بل ان منهم من هاجم العقيدة فى الصميم تحت دعاوى الحوار, وقد وصل الأمر الى إطلاق التهم وتشويه التراث والتاريخ والرموز..
- امام الهجوم الضارى على الدين تحت راية السياسة كان من الضرورى ان يزداد المدافعون عن الدين تطرفا وهنا غابت الموضوعية وحدثت تجاوزات فجة فى لغة الحوار بل ان الأمر وصل الى ساحة السجون فى قضايا مكانها الفكر والحوار وليس القضاء والمحاكم.
- ما بين دين العنف ودين التسامح اصبح من الواضح ان الانقسام تجاوز حدود الفكر ودخل الى مناطق اخرى من التصفيات الفكرية والعقائدية فقد تصور البعض ان الساحة مهيأة لاستئصال مؤسسات كاملة مسئولة عن الجانب الدينى فى حياة الناس وكان هذا تجاوزا للسعى وراء وهم كاذب لأننا امام مؤسسات عريقة تأصلت فى ضمير الناس ووجدانهم ولأن قضايا العقائد لا يمكن ان تحركها اغراض مشبوهة, لقد رأى فريق من الناس ان هناك فرصة نادرة فى ظرف سياسى مناسب من اجل اقتلاع جذور دينية كثيرة تأصلت فى هذه الأرض وجاء وقت اقتلاعها.
- كانت الانقسامات حادة بين من يرون ان الخطاب الدينى طريقة الإصلاح بينما هناك فريق آخر يرى ان الإصلاح لا يكفى وان الحل فى الجذور بمعنى اننا فى حاجة الى ثورة دينية.. وهنا خرج فريق يدافع عن الثوابت من منظور دينى متشدد، وما بين تشدد المطالبين بالثورة وتشدد المطالبين بحماية الثوابت ضاع الهدف من طرح القضية من الأساس وتحولت الأشياء الى مناظرات تليفزيونية وإعلامية فجة..
- مثل هذه القضايا تحتاج الى ثلاثة عناصر الأول المناخ بحيث لا تطغى ظروف سياسية او فكرية على مسيرة الحوار وهذا لم يتوافر من البداية, اما العنصر الثانى فكان ينبغى ان يكون الحوار بين اهل الاختصاص من العلماء والمفكرين بحيث لا ينزلق الى متاهات من الشطط والعشوائية بما يسمح للدخلاء ان يتسللوا الى الساحة ويفسدوا الهدف من طرح القضية وهذا ايضا لم يتوافر فقد دخلت اطراف لا علاقة لها بما يجرى على الساحة، اما العنصر الثالث فهو ألا تجرى كل هذه المساجلات فى العلن امام مجتمع مازالت نسبة الأمية فيه 30% لأن ذلك يعنى دخول اطراف ابعد ما تكون عن حساسية مثل هذه القضايا حين تصور البعض ان ما يجرى اعتداء على قدسية الدين وتشويه لثوابته..هذه العناصر لم تتوافر لأن الإعلام جعل من القضية حقا مستباحا لكل من هب ودب, ووجدنا تجاوزات كثيرة تحت شعار الحوار والحريات والرأى الآخر بل وصل الأمر الى اشتباكات بالأيدى دفاعا عن الدين او هجوما عليه..كان الظرف التاريخى مسيسا..وكانت جماعات الحوار تلعب فى غير اختصاصها..وكان الإعلام فجا وهو يناقش قضية الإصلاح الدينى بجهل وسطحية.
- مازلت اعتقد ان الحل الأمنى مازال هو الأساس الذى تتعامل به السلطة مع قضايا التطرف الدينى وحتى الآن لم نصل الى صيغة لنواجه الفكر بالفكر لأن القضية تشعبت ولم تعد قضايا شباب يعانى شططا فكريا لأن هناك منظومة لا يمكن تجاهلها تدخل فيها البطالة والتهميش وغياب القدوة وانكسار العدالة والمصداقية فى كل شئ..كان ينبغى ان يواكب الحلول الأمنية ــ وهى ضارية ــ برامج فكرية وثقافية ودينية لترشيد الشباب..كان الخطأ الأساسى اننا لجأنا الى العلاج الإعلامى وهو لا يصلح بسذاجته وسطحيته فى ان يواجه افكارا ترسخت فى عقول اجيال ضللتها جماعات الجهل والتخلف.
- اكاد لا اصدق ان هذه الحوارات الإعلامية ولا اقول الفكرية كانت سببا فى فشل المحاولات الجادة التى سعت اليها المؤسسات الدينية خاصة الأزهر الشريف او بعض المنابر الثقافية الواعية, لأن الإعلام جعل القضية معركة وصراعا بين اطراف متنافرة يرفض كل منها الآخر.
لقد اشعل الإعلام الحرائق تحت شعار الخطاب الدينى وكان ينبغى ان يجرى الحوار بين اطراف القضية من العلماء والمفكرين فى كواليس العلم اولا لأن هناك حساسيات كثيرة فى طرح قضايا الدين ونحن نتحدث عن عقائد تلعب الغيبيات فيها دورا كبيرا ولا ينبغى ان تكون مشاعا امام الأمية والشطط وهواة الشهرة والأضواء.
- بعض الأرقام وهى كثيرة تقول ان نسبة الإلحاد قد زادت فى مصر والدول العربية فى الأعوام الأخيرة وانا اصدق هذه الأرقام لأننا وضعنا الشباب خاصة الأجيال الجديدة امام صور مشوهة عن دينهم ما بين تطرف اعمى يمارس الإرهاب ويقتل باسم الدين وما بين شطط اكثر جهلا ينكر الأديان ويسعى للقضاء عليها تحت شعارات كثيرة من الحريات او الأفكار..سوف يكون خطأ تاريخيا مدمرا ان نترك شبابنا امام هذه الحيرة لأن الدين ليس داعش ولأن الإسلام الحقيقى ليس هؤلاء الذين باعوا انفسهم للشيطان ولن يكون البديل ابدا سحابات من الكفر والضلال..ان الشباب يتعرض الآن الى موجات حادة فى الفكر عبر الإنترنت ووسائل الإتصال الحديث والإعلام المشوه الذى لا يدرك مسئولياته ودوره وامام تعليم فاسد واسرة غائبة, كل هذا دخل بنا الى قضية اخطر فلم يعد الهدف إصلاح الدين..بل إقصاء الدين نفسه، هنا اضع بعض الملاحظات السريعة حول قضية إصلاح الخطاب الدينى:
اولا: أخطأنا حين تصورنا انها قضية رأى عام وهذا خطأ جسيم فى مجتمع تحاصره الأمية وتطفو على سطحه اقلية تصورت انها صاحبة القول والقرار..حين تكون امام قضية لك فيها 80 مليون شريك فى الوطن ومئات الملايين حولك لابد ان تختار الأسلوب والطريق ولغة الحوار بما يتناسب مع حساسية ودقة القضية..نحن لا نتحدث عن بعض العشوائيات او تجارة الأراضى نحن نتحدث عن ميراث ثقافى ووجدانى وفكرى تجسد فى عقيدة عاشت مئات السنين وحين نناقشها ينبغى ان نلتزم بالشفافية والمصداقية والأمانة والا نترك الأمر لهواة الصخب والضجيج..
ثانيا: لا اقول ان تجربتنا فى السنوات الماضية مع قضية إصلاح الخطاب الدينى قد فشلت ولكنها لم تحقق اهدافها حتى الآن بل انها تركت آثارا سلبية يجب ان نتنبه لها ومنها ظاهرة الإلحاد وهى جديدة علينا ليس فى فكرها ولكن فى اعدادها ولهذا لابد ان نختار الوسائل التى تحقق اهدافنا واهمها الا نلجأ لمن يتاجرون بالدين حفاظا على مصالحهم او من جعلوا الهجوم على الدين وسيلتهم للتربح امام اطراف دولية تستخدمهم لتحقيق اهداف مشبوهة.
ثالثا: مازال الطرف الأهم غائبا فى قضايا التطرف الدينى وهى المواجهة الفكرية, فإن الهدف من إصلاح الخطاب الدينى هو ترشيد الشباب الذين عبثت بهم فصائل التطرف ولا اتصور ان الحل الأمنى يكفى خاصة انه لم يحقق الهدف فمازالت افواج الإرهابيين تزداد على اتساع هذه الأمة فى كل مكان إلا ان القصور الحقيقى مازال فى الأفكار وليس فى السجون والمعتقلات..ان السجون فى الحقيقة كانت مدارس لمزيد من التطرف والعنف والإرهاب..وبجانب هذا فمازال فى القضية اكثر من جانب حول غياب العدالة والبطالة وعدم تكافؤ الفرص وكلها اسباب لا يمكن ان تعالج امنيا ولكنها قضايا اجتماعية وسياسية امتدت آثارها عبر اجيال تعرضت لكل اساليب الدمار النفسى والبطش الفكرى والاستبداد السياسى.
ولاشك ان تقاعس اطراف النخبة سواء الدينية او العلمانية جعل الحوار اكثر صعوبة وتطرفا كما ان النيات لم تكن صادقة.
رابعا:لا ينبغى ان يكون الإلحاد طريقا للخروج من محنة دينية طارئة فى تاريخ هذه الأمة، وإذا كنا نشجع الحوار فى قضايا الدين لكى نعيش ديننا الحقيقى بعدله وسماحته فلا ينبغى ان نترك البعض يتخذ ذلك وسيلة لنشر افكار شاذة واهداف مغرضة لأن الضلال لا يمكن ان يكون بديلا للهداية.
خامسا: ثورات الفكر عادة تحتاج الى قدرات وزعامات لا يجود الزمان بها دائما..ولهذا يتحدث الناس عن الإصلاح اكثر ما يحلمون بالثورات.. والخطاب الدينى يحتاج الى ترشيد وإصلاح حتى يأتى زمان آخر برموزه ورجاله وقدوته ليكونوا ثوار فكر وعلينا ان نقنع بما بين ايدينا الآن وننتظر الزمان القادم فقد يجود علينا بعقول اكثر رحابة وانسانية.
..ويبقى الشعر
مَاذا أخذتَ مِنَ السَّفـَرْ..
كـُلُّ البلادِ تـَشَابَهَتْ فى القهْر..
فى الحِرْمان ِ..فى قـَتـْل البَشَرْ..
كـُلُّ العيُون تشَابَهتْ فى الزَّيفِ.
فى الأحزان ِ..فىَ رَجْم القـَمَرْ
كل الوُجوهِ تـَشابَهتْ فى الخوْفِ
فى الترحَال..فى دَفـْن الزَّهَرْ
صَوْتُ الجَمَاجـِم فى سُجُون اللـَّيل
والجَلادُ يَعْصِفُ كالقـَدَر..
دَمُ الضَّحَايَا فـَوقَ أرْصِفـَةِ الشـَّوارع
فى البُيوتِ..وفى تجاعيدِ الصَّورْ..
مَاذا أخـَذتَ منَ السَّفـَر ؟
مَازلتَ تـَحلـُمُ باللــُّيالى البيض
والدِّفْء المعَطـّر والسَّهَرْ
تـَشـْتـَاقُ أيامَ الصَّبابَةِ
ضَاعَ عَهْدُ العِشْق وانـْتـَحَر الوَتـَرْ
مَازلتَ عُصفـُورًا كسِير القـَلـْبِ
يشدُو فـَوْقَ أشـْلاءِ الشَّجَرْ
جَفَّ الرَّبيعُ..
خـَزائِنُ الأنـَهار خـَاصَمَها المَطـَرْ
والفـَارسُ المِقـْدامُ فى صَمت
تـراجَعَ..وانتحَرْ..
مَاذا أخـَذْتَ مِنَ السّفـَر ؟
كـُلُّ القصَائِدِ فى العُيُون السُّودِ
آخرُهَا السَّفـَر..
كلُّ الحَكايَا بَعْدَ مَوْتِ الفـَجْر
آخرُها السَّفـَر..
أطـْلالُ حُلمِكَ تـَحْتَ أقدام السِّنِين..
وَفى شـُقـُوق ِ العُمْر.
آخُرها السَّفـَر..
هَذِى الدُّمُوعُ وإنْ غَدَت
فى الأفق ِ أمطـَارًا وزَهْرًا
كانَ آخَرُهَا السَّفـَر
كـُلُّ الأجـِنـَّةِ فى ضَمِير الحُلـْم
ماتـَتْ قـَبْـلَ أن تـَأتِى
وَكـُلُّ رُفـَاتِ أحْلامِى سَفـَر..
بالرَّغـْم مِنْ هَذا تـَحنُّ إلى السَّفـَر؟!
مَاذا أخذْتَ مِنَ السَّفـَر؟
حَاولتَ يومًا أن تـَشُقَّ النـَّهْر
خَانـَتـْـكَ الإرَادَهْ
حَاوَلتَ أنْ تـَبنِى قـُصورَ الحُلـْم
فى زَمن ِ البَلادَهْ
النبضُ فى الأعْمَاق يَسقـُط ُ كالشُّموس الغـَاربهْ
والعُمْر فى بَحْر الضَّياع الآنَ ألقـَى رأسَه
فـَوقَ الأمَانِى الشـَّاحِبهْ..
شَاهَدْتَ أدْوارَ البَراءةِ والنذالةِ والكـَذِبْ
قـَامْرتَ بالأيام فى «سِيْركٍ» رَخيص ٍ للـَّعِبْ
والآنَ جئـْتَ تـُقيمُ وَسْط َ الحَانـَةِ السَّودَاءِ..كـَعْبَهْ
هَذا زَمانٌ تـُخـْلـَعُ الأثوابُ فِيهِ..
وكلُّ أقدار الشُّعوبِ عَلى الـَموائِدِ
بَعض لـُعْبهْ .
هَذا زَمانٌ كالحِذاء..
تـَراهُ فى قـَدَم المقـَامِر والمزَيِّفِ والسَّفِيهْ..
هَذا زَمَانٌ يُدْفـَنُ الإنسَانُ فِى أشْلائِه
حيّا ويُقـْتلُ..لـَيْسَ يَعرفُ قـَاتِليهْ..
هَذا زَمانٌ يَخـْنـُقُ الأقمَارَ..
يَغـْتـَالُ الشُّمُوسَ
يَغـُوصُ..فى دَمِّ الضَّحَايَا..
هَذا زَمَانٌ يَقـْطـَعُ الأشْجَارَ
يَمْتـَهنُ البرَاءَة َ
يَسْتـَبيحُ الفـَجْرَ.. يَسْتـَرضى البَغـَايَا
هَذا زَمَانٌ يَصلـُبُ الطـُّهْر الـَبرىءَ..
يُقيمُ عِيدًا..للـْخـَطـَايَا..
هَذا زَمَانُ الموْتِ..
كـَيْفَ تـُقِيمُ فوقَ القـَبْر
عُرسًا للصَّبايَا ؟!
عُلبُ القمَامَة زينـُوهَا
رُبَّمَا تبْدو أمَامَ النـَّاس..بُسْتـَانـًا نـَديّا
بَينَ القمَامَة لنْ ترَى..ثوْبًا نـَقِيّا
فالأرْضُ حَوْلكَ..ضَاجَعَتْ كلَّ الخطايَا
كيْفَ تحْلم أنْ تـَرى فيهَا..نـَبيّا
كـُلُّ الحَكايَا..كانَ آخرُهَا السَّفـَر
وَأنا..تـَعِبْت مِنَ السَّفـَر..