فى كل يوم نقرأ عن اتفاقيات اقتصادية جديدة يوقعها المسئولون فى الدولة تبدأ هذه الإتفاقيات بما يتم فى زيارات الرئيس عبد الفتاح السيسى للدول الأجنبية وهى زيارات تعددت وشملت عددا كبيرا من الدول.. هناك ايضا اتفاقيات وقعتها الوزارات من خلال الوزراء المسئولين فى الحكومة وقد شملت اكثر من وزير واكثر من مسئول .. ولاشك ان هذه الإتفاقيات تمثل تطورا كبيرا فى العلاقات الإقتصادية بين مصر ودول العالم وهى تبعث الروح فى قطاعات كثيرة تجمدت انشطتها عبر سنوات طويلة من الإهمال والفساد وغياب الجدية والمتابعة..
نحن الأن امام واقع جديد مئات الإتفاقيات التى وقعتها مصر فى كل المجالات فى الإستثمار والصناعة والزراعة والبترول والغاز والثروة المعدنية واستخراج الذهب والسياحة والتسهيلات الإئتمانية والقروض والبنوك والصناعات الصغيرة والإسكان والثروة السمكية والمناطق الحرة والسيارات والتكنولوجيا والإتصالات .. وقبل ذلك كله نحن امام ارقام مذهلة سواء فى التمويل او الشراكة او الديون او المعونات .
لقد تناولت هذه القضية بإيجاز شديد فى مرات سابقة ولكننى تلقيت رسائل كثيرة تطالبنى بأن اكمل الحديث فى هذه القضية الشائكة .. وهنا نطرح عددا من التساؤلات المهمة ..
اولا : هل لدى الحكومة خريطة كاملة عن الإتفاقيات التى تم توقيعها فى مؤسسات الدولة بمعنى هل هناك جداول تضم المشروعات وانواعها وفترات تنفيذها وتكاليفها المالية وما تفرضه من التزامات على الجانب المصرى واين توجد هذه الجداول وهل تتبع وزارة التخطيط ام وزارة الإستثمار ام التعاون الدولى ام مجلس الوزراء؟!
ثانيا : ان عشرات الوفود المصرية التى سافرت للخارج قامت بتوقيع اعداد كبيرة من الإتفاقيات كما ان عشرات الوفود الأجنبية زارت القاهرة ووقعت مئات الإتفاقيات فأين ذهبت هذه المشروعات، وهل تم اسنادها الى مؤسسات معينة هنا وهناك من اجل بدء التنفيذ، وهل بدأ التنفيذ ام بقيت على ورق ام اننا امام منشآت بدأت معالمها تظهر واين يحدث ذلك كله ؟!
ثالثا : ماذا يعنى ان يعلن مسئول ان شركة كذا قررت استثمار مليار دولار فى مشروع ما .. هل هى مجرد ارقام للإعلام ام ان هناك مشروعات تمت دراستها من الفنيين والخبراء واخذت طريقها للتنفيذ هل هى مجرد اخبار صحفية عن زيارة تمت او وفد سافر، لابد ان يعلن عن نتائج الزيارة حتى لو كانت سطورا على ورق ؟!
رابعا : ان هذه الإتفاقيات بالضرورة تمثل اعباء على الجانب المصرى فى صورة ديون او التزامات مالية وهذا يعنى ضرورة التنفيذ حتى لا تصبح هذه الأعباء مجرد اموال سوف يجئ ميعاد سدادها .. وهل تتحول هذه الأعباء الى التزامات على ميزانية الدولة رغم عدم تنفيذها؟!
خامسا : هناك اتفاقيات مالية تحمل ارصدة كبيرة تضاف الى الدين العام هناك القروض والتسهيلات وهناك اذون الخزانة بالعملة الصعبة والجنيه المصرى وهناك ديون مؤسسات الدولة لبنك الإستثمار القومى وهناك قروض الحكومة من البنوك لتمويل المشروعات او تغطية عجز الميزانية بل ان المشروعات الجديدة تحصل على تسهيلات من البنوك بفوائد ميسرة.. وهذه المجالات جميعها يجب ان تخضع لرقابة من البنك المركزى حتى لا تتوه اموال البنوك فى عجز الميزانية وفى دوامة القروض.
سادسا : فى كل بلاد الدنيا تخضع سياسة القروض لقواعد صارمة حتى لا تدخل الديون فى مناطق الخطر وقد تجاوزت ديون مصر الأن 3٫5 تريليون جنيه بجانب اكثر من 70 مليار دولار والسؤال هنا هل يشمل ذلك اذون الخزانة او ديون المؤسسات الخاصة او ديون المشروعات الإستثمارية التى تقترض من الداخل او الخارج وهل يتم ذلك تحت إشراف البنك المركزى والحكومة ام انه نشاط مستقل لا يخضع لذلك كله؟!
سابعا : ما هو مصير هذه الإتفاقيات فى الوزارات المختلفة وهل هناك قواعد للتنفيذ والتخطيط والمتابعة ومن يراقب القروض التى تحصل عليها كل وزارة وهل هناك تنسيق بين ما تحصل عليه الوزارات مجتمعة على اساس ان ذلك يمثل اعباء على الدولة حتى لو جاءت من مصادر مختلفة.. ان وزارة الإستثمار توقع اتفاقيات وكذلك التعاون الدولى ووزارة الصناعة ايضا وكذلك وزارة المالية فيما يخص اذون الخزانة والبنك المركزى يقدم الضمانات فى كل الأحوال حول سياسة الإقراض حتى لا تصبح سيفا مسلطا على موارد الدولة وقبل هذا كله فإن معظم مؤسسات الدولة مدينة لبنك الإستثمار القومى بمئات الملايين من الجنيهات.
ثامنا : ان اخشى ما اخشاه هو سياسة الجزر فيما يتعلق بقضية الإتفاقيات لأننا امام اعداد كبيرة منها وهى لا تتم فى إطار حكومى واحد ومتجانس ولكنها سياسات وزراء وكل وزير يدير شئون وزارته حسب حساباته وربما غاب التنسيق بين الوزراء حول ما يوقع من اتفاقيات وما تفرضه من اعباء .. ان منطق الجزر يعنى غياب التنسيق وغياب المتابعة وغياب الحساب وقبل هذا كله غياب المسئولية خاصة إذا كانت الحكومة لا تتابع تفاصيل كل ما يجرى من هذه الإتفاقيات .
تاسعا : فى زمان مضى كانت الحكومات الأجنبية تشكو من ان الدولة المصرية لا تلتزم بما توقعه من الإتفاقيات وكانت القروض تظل سنوات دون ان تستخدمها الحكومة المصرية لأن المشروعات لم تكن تنفذ ولأن المؤسسات لا تتابع ما وصلت اليه هذه الإتفاقيات .. هناك مشروعات كثيرة فى الصناعة والسياحة وحتى البترول حصلت فيها مصر على تسهيلات واموال وقروض لم تستخدمها وبقيت حبرا على ورق سنوات طويلة .
عاشرا : حتى لا تتكرر اخطاء الماضى وحتى لا نجد عشرات الإتفاقيات لم تنفذ وحتى لا تظل عشرات المشروعات حبرا على ورق فإن المطلوب الأن هو ضرورة التنسيق بين السادة الوزراء حول ما يوقعون من الإتفاقيات بحيث لا ينفرد وزير بتوقيع عشرات المشروعات دون ان يخطر زملاءه بذلك .. والأهم من ذلك بالطبع ان تعرض الإتفاقيات قبل توقيعها على مجلس الوزراء حتى لا يحدث تناقض او تعارض فى السياسات .. ليس من حق اى وزير ان يذهب الى اى دولة ويقرر منفردا توقيع اتفاقية او قرض او شركة او تعاون فى اى مجال دون ان يخطر الحكومة بذلك خاصة إذا كانت هذه الإتفاقيات تفرض التزامات او اعباء على الدولة .. ان غياب التنسيق بين سلطة القرار فى مثل هذه الأمور يمكن ان يصل بنا الى نتائج خطيرة .
يبقى عندى اقتراح وهو ان يتم إنشاء جهاز سيادى لمتابعة تنفيذ الإتفاقيات والتنسيق بين الجهات المسئولة لأننا احيانا نجد وزارة مهمتها ان تحدد المشروع مثل وزارة التخطيط وتسند تنفيذه الى وزارة اخرى كالصناعة او الزراعة او السياحة وهنا تكون مسئولية هذا الجهاز هى التنسيق بين مؤسسات الدولة ومتابعة تنفيذ الإتفاقيات من حيث الإلتزامات والتوقيت والأعباء والإنجازات اما ان يبقى الحال كما هو الأن حيث نقرأ كل يوم عن عشرات المشروعات التى تم توقيعها ثم نسأل اين هذه او نجد المسئول كل يوم فى بلد يوقع الإتفاقيات دون متابعة لا من الحكومة او الأجهزة المسئولة ..
اين مجلس الشعب من كل هذه الإتفاقيات وهل تصل الى المجلس صورة منها .. اننا لم نسمع يوما ان المجلس ناقش اتفاقية او اعترض عليها او طلب اى تعديلات فيها ..
إن بقاء المجلس بعيدا عن الإتفاقيات التى توقعها الحكومة يمثل خللا كبيرا فى العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية لأن هذا يعنى التزامات واعباء جديدة على الدولة لا يراقبها او يتابعها احد والمطلوب ان تقدم الحكومة للمجلس هذه الإتفاقيات بل ان الأهم ان يوافق عليها حتى تكون ملزمة للدولة المصرية
ان هذه الإتفاقيات تمثل انجازات كبيرة لا خلاف عليها لأنها تفتح امام الإقتصاد المصرى مجالات اوسع وابوابا اكبر للتنمية والبناء ولكن المطلوب ان نطمئن الى ان هذه الإتفاقيات لا تفرض اعباء فوق طاقتنا ولا تطالبنا بما لا نستطيع وقبل ذلك ان تكون واقعا يشعر به المواطن حتى ولو بعد حين .