لا شك أن تجربة مؤتمرات الشباب التى أسستها مؤسسة الرئاسة تحت إشراف مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسى قد حققت نتائج إيجابية وقربت المسافة كثيرا بين الدولة وشبابها من خلال المصارحة والمواجهة وتعديل المسارات .. إن أهم ما جاءت به هذه اللقاءات أنها فتحت أبوابا للحوار فى لحظة تعثرت فيها سبل التواصل أمام ظروف وتحديات فرضها الواقع المصرى فى مجالات كثيرة وإن بقيت لحشود الشباب مطالب مشروعة من حقه أن يسأل وأن يجد إجابات كافية ومقنعة عنها..
من الشجاعة أن نعترف بأننا لسنوات طويلة أهملنا شبابنا هذه الكوكبة الإنسانية الفريدة تعرضت لظلم شديد أمام متغيرات اجتماعية وسياسية حادة خرجت منها أجيال حائرة مترددة محبطة أمام واقع لم يضعها أبدا فى حساباته .. وفى اللقاء الأخير مع الشباب توقفت عند عدد من الملاحظات التى تحتاج إلى مواجهة صريحة..
أولا: فى قرار رئاسى من الرئيس عبد الفتاح السيسى تم الإفراج عن الدفعة الرابعة من المساجين وعددهم 332 سجينا وأمر الرئيس بخروجهم فوراً ليحتفلوا بالشهر المبارك مع أسرهم وكانت هذه اللفتة عرسا لعائلات كثيرة وأسر عانت طويلا من غياب أبنائها وراء القضبان.. ولا أنكر أنني تمنيت لو كان عدد المفرج عنهم اكبر من ذلك بكثير خاصة أن الوقت طال بين الدفعات التى تم الإفراج عنها وأن أربع دفعات لا تكفى خاصة إذا كانت هناك أعداد كبيرة من الشباب تنتظر رحمة القضاء وعدالته أو قرارات العفو الرئاسية وهى طريق الإنقاذ أمام قلوب ونفوس متعبة .. ولا أدرى لماذا كل هذا الوقت وهل تؤدى اللجنة المكلفة بهذه المهمة دورها كما ينبغى أم إنها تؤجل القرارات لأسباب كثيرة..
ثانيا: إن مؤتمرات الشباب فتحت بابا للحوار بين الدولة وشبابها ولكن بقيت قضايا كثيرة معلقة مازالت تترك فجوة كبيرة فى المواقف والمشاعر وردود الأفعال .. منذ سنوات بعيدة والشباب المصرى يعانى من فراغ سياسى رهيب أمام تجارب لم توفر مناخا سياسيا صحيا فى الحوار والمعارضة كان أبسط الأشياء أن تمنع الدولة ممارسة النشاط السياسى فى الجامعات وإذا كان هذا أمرا مقبولا فى نشاط الأحزاب إلا أنه مرفوض كموقف فكرى يمنع الشباب من المشاركة والحوار وإبداء الرأى حتى لو كان معارضا .. إن الجامعات هى المدرسة الحقيقية للسياسة وفيها تتبلور شخصية الشباب ويحددون مواقفهم فى قضايا كثيرة ولا شك أن حرمانهم من هذه الحقوق كان سببا فى تشويه عقولهم وأفكارهم خاصة أن حشودا منهم سقطت فى سراديب أفكار مغرضة خلطت الدين بالسياسة واستخدمت الشباب بصورة سيئة تحت شعارات دينية زائفة.. كانت الجامعات المصرية مدارس سياسية وكانت اللقاءات والأنشطة الفكرية فيها تجمع أفضل العقول من رموز الثقافة المصرية فى عصرها الذهبى والغريب أن الشباب كان يعبر عن أفكاره فى أكثر العهود استبدادا وكان يمارس حقه فى الرفض والقبول فى ظل نظم فردية كانت تقدر أهمية الشباب ودورهم وضرورة الحوار معهم..
إن شبابنا الآن يعانى فراغا سياسياً رهيباً حيث لا حوار فى الجامعات ولا رعاية من النخبة ولا وجود للأحزاب السياسية فى حين أغمضت الدولة عينها عن شبابها أمام أسباب كثيرة كان أهمها وأخطرها ما حدث بعد ثورة يناير من جفوة وما حدث بعد ثورة يونيو من غياب ومازلت اعتقد أن ثورة يناير خلفت جراحا كثيرة ولا بد من علاج هذه الجراح وخلف السجون شباب لا بد أن نعرف أسباب سجنه بمقاييس عادلة بعيداً عن الاتهامات والتصنيفات وأصحاب المصالح..
ثالثا: لا يمكن أبدا تبرئة مؤسسات الدولة من إهمال شبابها تعليماً وثقافة فقد تركنا أجيالا كثيرة فى ظل نظم تعليمية متخلفة وثقافة هزيلة, وتشكلت هذه الأجيال فى ظل واقع ثقافى مترد ونظام تعليمى تخرجت منه الملايين وهى لا تستطيع التعامل مع العصر الذى نعيش فيه .. إننا الآن ندفع ثمن أخطاء تشبه تجارب الفئران حيث تعرضت أجيال مصر لعملية تخريب متعمدة وظن البعض أمام الانقسام الطبقى البغيض أنهم ناجون فهربوا إلى التعليم الأجنبي أو ذهبوا إلى الجامعات الأجنبية ولكنهم اكتشفوا أن ما زرعوه خارج أوطانهم لن يفيد أحدا .. إن واقع الثقافة المصرية وما وصلت إليه من السطحية والتراجع ترك أجيالاً مشوهة فى الفكر والسلوك والأخلاق..
رابعا: أمام غياب تكافؤ الفرص وضياع حق المواهب الحقيقية فى العمل والإبداع كان الانقسام الطبقى أسوأ ما تعرضت له أجيال الشباب فى مصر أن توزع الأموال والألقاب والفرص بين أعداد قليلة من البشر ورثوا كل شىء أمام حشود من الشباب تقلصت أحلامهم ولم يجدوا غير الهروب والسفر داخل ذواتهم أو خارج وطنهم..
إن غياب العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد جريمة لن تسقط بالتقادم فقد خلقت أجيالاً من المنتفعين والمغامرين وكذابى الزفة فى كل المجالات وانسحب أصحاب المواهب الحقيقية أمام مشاعر الإحباط والرفض والإحساس بالمهانة..
خامسا: قد تصل المؤسسات الأمنية إلى حلول فى قضية مراكز الإرهاب والقضاء عليها ولا شك أن الجيش والشرطة يؤديان هذه المهمة بكل الأمانة والصدق ولكن أحوال الشباب مازالت حتى الآن تدعو للقلق والخوف حيث لا عمل ولا إنتاج ولا فرص وهنا يصبح من الضرورى اقتلاع جذور الإرهاب فى الفكر والواقع الاجتماعى والأسباب التى تقف وراء هذه الظاهرة الخطيرة أن مدارس الإرهاب مازالت مفتوحة وتتلقى كل يوم الآلاف من المحبطين والرافضين وهؤلاء يحتاجون إلى مستوى ثقافى وفكرى يقوم على الحوار والجدل وليس فقط استخدام الأمن.. إن الحل الأمني يصلح مع من يحمل سلاحا ولكنه لا ينفع مع من يستخدم فكر من هنا فإن وضع الثقافة والتعليم على قائمة الأولويات فى الدولة يعتبر ضرورة لا غنى عنها..
سادسا: هناك قضية هى الأخطر والأهم وهى الشباب والمخدرات خاصة أن آخر الأرقام تؤكد أن نسبة كبيرة من الأطفال وليس الشباب دخلوا كارثة المخدرات حتى من سن عشر سنوات .. إن الأرقام مخيفة والنسب مذهلة وهى الآن بالملايين حتى أن المصريين ينفقون على المخدرات أكثر من 30 مليار جنيه سنويا وهذا مبلغ يكفى لإصلاح أحوال التعليم وإقامة نهضة علمية حقيقية وهذا المبلغ ينقذ عشرات الآلاف من الشباب من الموت .. إن قضية المخدرات تعالج الآن بمحاربة الإدمان والتوعية وهذه الأساليب لا تكفى وعلينا أن نكون أكثر حسما فى الرقابة الأمنية لأن الكميات التى تنشرها الصحف كل يوم عن جرائم التهريب والاتجار والتعاطى تؤكد أننا أمام كارثة حقيقية تهدد مستقبل أجيالنا القادمة..
هذه هى القضايا الحقيقية للشباب وهى تحتاج إلى جهود اجتماعية وسياسية وفكرية وأمنية .. إن مواجهة المخدرات قضية أمن وهى لا تقل فى خطورتها عن مواجهة الإرهاب والعدالة الاجتماعية تمثل احتياجا حقيقيا لإعادة التوازن لكل طبقات المجتمع بمن فيهم الشباب لأن الإحساس بالظلم الاجتماعي يهدد مقومات المجتمع فى ظل غياب العدالة وعدم تكافؤ الفرص إن الشباب المتفوق يمكن أن يتحول إلى لغم يدمر كل شىء إذا لم يجد حقه فى مجتمع يقدر التميز ويحمى الكفاءة..
لا ينبغي أيضاً أن نخلط الأوراق ونقول للشباب نحن نبنى كل شىء من أجلكم هذه حقيقة لأن الشباب شركاء فى هذا المجتمع ولكن يجب أن ندرك أن للشباب قضاياه الخاصة .. إن التعليم قضية شبابية والثقافة والأنشطة السياسية والحوار كلها ظواهر تهم الشباب فى تكوينهم الفكرى والسياسى وقبل هذا كله فإن الشباب بلا عمل ضياع لثروات وطن وأحلام أجيال من حقها أن تعيش بكرامة..
لا شك أن مؤتمرات الشباب قد فتحت آفاقاً أوسع لحوار خلاق ولكن أتمنى أن تكون قائمة العفو الرئاسى عن الشباب المسجونين أكثر عدداً وأسرع توقيتاً وأن نجد من بين هؤلاء الشباب المفرج عنهم من يشارك فى المؤتمرات الشبابية القادمة ومن بينهم من بقى من شباب ثورة يناير ويونيو..
لا ينبغي أيضا أن ينتهي كل شئ مع نهاية جلسات المؤتمرات وأن يبقى الحوار مفتوحا بحيث يضم أطيافاً فكرية مختلفة حتى لو كانت متعارضة بما فى ذلك شباب أحزاب المعارضة وهنا يمكن أن يكون للإعلام دور فى متابعة هذا الحوار والمشاركة فيه مع جميع مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية والتعليمية..
سوف يبقى الشباب رصيد هذه الأمة الحقيقى وإذا كانت هناك أحداث اختلطت فيها الأوراق فيجب ألا يصل بنا إلى قطيعة دائمة مع شبابنا إن لهم فى رقابنا حقوقا كثيرة .. وقد أخطأنا كثيرا معهم فلم نقدر أحلامهم ولا رغبتهم فى التغيير وقسمناهم إلى درجات من يملكون ومن لا يملكون وجعلنا منهم اللائق اجتماعيا وغير اللائق رغم أنه لا ذنب لهم فى فقرهم وعلينا أن نستعيد الثقة بيننا وبين شبابنا فهم الباقون .. ونحن الراحلون.
..ويبقى الشعر
مَاذا تـَبـَقـّى مِنْ بلاد الأنـْبَياءْ..
فِى حَانةِ التـَّطـْبيع
يَسْكر ألفُ دجَّال ٍ وبَينَ كـُئـُوسِهمْ
تنهَارُ أوْطانٌ.. وَتسقـُط كبْريَاءْ
لمْ يتـْرُكوا السِّمسَار يَعْبثُ فى الخفاءْ
حَملوُهُ بيْن النـَّاس
فى البَاراتِ..فى الطـُّرقات..فى الشاشاتِ
فِى الأوْكار..فى دُور العبَادَةِ فِى قـٌبور الأوْليَاءْ
يَتـسَـللـُونَ عَـلى دُرُوبِ العَار
يـَنكفئـُونَ فِى صَخَبِ المزادِ وَيَرْفـَعُونَ الرَّاية َالبَيْضاءْ..
مَاذا سَيَبْـقى مِنْ نواقيس النـِّفاق ِسوَى المهَانةِ والرِّيَاءْ.
مَاذا سَيَبْقى منْ سٌيوفِ القهْر
وَالزَّمَن المدَنـَّس بالخَطايَا غـَيْر ألوان ِالبَلاءْ
مَاذا سَيَبْـقى منْ شُعُوبٍ لمْ تعُد أبدًا تفرِّقُ
بَيْنَ بَيْتٍ للصَّـلاةِ..وَبينَ وكـْر للبغـَاءْ
النـَّجْمة السَّوْداءُ ألقتْ نارَهَا فوْق النَّخيل
فغـَابَ ضوْءُ الشـَّمْس..جفَّ العشبُ
واختنقتْ عٌيونُ الماءْ
ماتتْ من الصَّمتِ الطويل خٌيولنا الخرْساءْ
وَعَلى بقايا مجدِها المصْـلـُوب ترتعُ نجْمة ٌسوداءْ
فالعَجْزُ يحْصُدُ بالرَّدى أشجَارَنا الخضْرَاءْ
لا شَىْءَ يبْدُو الآن بيْنَ ربٌوعنـَا
غيْر الشـَّـتاتِ .. وفرقـْة الأبناءْ
والدَّهرُ يرسُمُ
صُوْرة العجْز المهين لأمَّةٍ
خرجَتْ منَ التاريخ
واندفعتْ تهَرْولُ كالقطيع إلى حِمَى الأعدَاءْ ..
فى عَيْنها اختلطتْ
دماءُ النـَّاس والأيـَّام والأشـْياءْ
سكنتْ كهُوفَ الضَّعْفِ
وَاسترختْ على الأوهَام
ما عَادَتْ ترى المْوتى من الأحْيَاءْ
كـُهَّانـُها يترنـَّحُونَ على دُرُوب العَجْز
ينتفضُونَ بَيْنَ اليأس والإعْيـَاءْ
***
مَاذا تبقـَّى منْ بلادِ الأنبياءْ ؟
منْ أىِّ تاريخ ٍ سنبْدأ
بعْد أنْ ضاقـَتْ بنا الأيـَّامُ
وانـْطفأ الرَّجَاءْ
يَا ليَـلة الإِسْراءِ عُودِى بالضِّياءْ
يَتسلـَّـلُ الضَّوْءُ العنيدُ من البَقيع
إلى رَوَابى القـُدْس
تنـْطلق المآذنُ بالندَاءْ
وَيُطلُّ وجْهُ مُحمَّد
يَسْرى به الرَّحمنُ نـُورًا فى السَّمَاءْ ..
اللهُ أكـْبَرُ منْ زَمَان العَجْز ..
منْ وَهَن القــُلـُوبِ .. وَسَكرَةِ الضُّعفـَاءْ
اللهُ أكـْبرُ من سٌيوفٍ خانـَهَا
غدْرُ الرِّفاق .. وخسَّة الأبْنـَاءْ
جلبَابُ مَرْيَمَ
لمْ يزلْ فوْق الخليل يُضىءُ فى الظلمَاءْ
فِى المهْد يَسْرى صَوْتُ عيسَى
فى رٌبوع القدْس نهْرًا منْ نقاءْ
يا ليـْـلة الإسْراء عُودى بالضِّيَاءْ
هُزّى بجذع النـَّخـْـلةِ العَذراءْ
يسَّاقط الأملُ الوليدُ على رٌبوع القدْس
تنـْتفِضُ المآذِنُ يُبعثُ الشُّهَدَاءْ
تتدفقُ الأنهَارُ .. تشـْـتعلُ الحَرَائقُ
تستـْغيثُ الأرْضُ تهْدرُ ثوْرَة الشرفـَاءْ
ياليْـلة الإسْراءِ عُودى بالضِّياءْ
هُزِّى بجذع النـَّخلةِ العذْراءْ
رَغْمَ اختناق الضَّوْء فى عَيْنى
وَرَغْم الموت .. والأشلاءْ
مَازلتُ أحْـلمُ أن أرَى قبل الرَّحيل
رَمَاد طاغيةٍ تناثرَ فى الفضَاءْ
مَازلتُ أحْـلمُ أن أرى فوْق المشانِق
وَجْهَ جلادَّ قبيح الوجْهِ تصفعُهُ السَّماءْ
مازلتُ أحْلمُ أن أرى الأطفالَ
يقتسمُون قرْص الشـَّمْس
يخـْـتبئون كالأزْهَار فى دِفْءِ الشـِّتاءْ
مَازلتُ أحْـلمُ ..
أنْ أرى وطنـًا يعانقُ صَرْختِى
وَيثورُ فى شَمَم ٍويرْفضُ فى إباءْ
مَازلتُ أحْـلمُ
أنْ أرَى فى القـُدْس يوْمًا
صَوْتَ قـُدَّاس ٍ يُعانقُ ليلة الإسْرَاءْ
وَيُطلُّ وجْهُ الله بَيْن رٌبوعِنا
وتعودُ أرضُ الأنبياءْ
من قصيدة ماذا تبقى من بلاد الأنبياء «سنة 2000»
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع