حين يأخذ القانون اجازة تتقاعس الحكومات وتسوء سلوكيات البشر .. وحين يعجز المسئولون عن حماية الناس من غوغائية الشارع يحصل كل مواطن على حقه بيده .. ومن أخطر الظواهر فى المجتمعات ان يجد المواطن نفسه حائرا بين سلطة عاجزة .. ومجتمع افتقد الإنسانية والرحمة .. الغالبية المصرية الأن تعيش بين قرار لا يحميها وقلة من المغامرين استباحت كل شىء ولا تتوقف عند شىء .. حكومة لا تستطيع ان تضع هامشا للربح واسعارا للسلع وتاجر استباح الناس بالباطل من اجل مزيد من المال والثراء .. وحين تغيب هيبة القانون تتحول الحياة الى غابة لا تحكمها حقوق او واجبات.
> ان الحكومة تتحدث كثيرا عن خفض الإنفاق وترشيد الاستيراد وتشجيع الصادرات ولا شىء من ذلك يحدث .. فى كل يوم احتفالات جديدة تتكلف ملايين الجنيهات والسادة الوزراء كل يوم على سفر ويقيمون فى الخارج اكثر مما يقيمون فى بيوتهم واصبحت التصريحات الصحفية عن الرحلات الخارجية هى كل رصيد العمل الوزارى، هناك وزارات كل نشاطها الأن تصريحات من عواصم العالم، وتسأل وماذا يجرى داخل مكاتب المسئولين فسوف تجد حشودا من السفريات الداخلية الى الأقصر وشرم الشيخ والكل يدلع نفسه ..
> لا اتصور أن الحكومة بكل سلطاتها عاجزة حتى الأن عن ترشيد الأسواق ومراقبة الأسعار ووضع ضوابط لجشع التجار.. هل يعقل ان ينهار سعر الجنيه المصرى بهذه الصورة والمسئولون فى اجازة واين سلطات الدولة ومسئوليتها هل يعقل ان مجموعة من التجار المغامرين تلقى بالدولة يمينا وشمالا ما بين اسعار السلع وغذاء الشعب وسعر الدولار ولا تجد من يتخذ قرارا حكيما ويمنع هذه الجرائم.. هل يعقل ان نترك عصابة من المغامرين تخفى السلع وترفع اسعارها ويدور المواطن باحثا عن كيلو سكر او ارز او زجاجة زيت بينما المخازن تتستر على كل هذه الجرائم.. كثيرا ما قرأنا عن القبض على تاجر عملة او سمسار سلع ثم تم الإفراج عنه، حتى لصوص القمح دفعوا للدولة وتصالحوا وخرجوا آمنين.. مادام القانون فى اجازة فإن التصالح اقرب باب للهروب وبالقانون هرب لصوص العهد البائد بأموال الشعب وخرج لصوص القمح من السجون وفى كل يوم يخرج المغامرون من تجار قوت الشعب دون ان يمسسهم أحد ..
سمعت يوما قصة من كاتبنا الكبير الراحل د. يوسف ادريس قال كنت فى لقاء مع الرئيس العراقى صدام حسين فى بغداد وفجأة قطع حديثه معى وخرج وبعد دقائق قليلة عاد ومعه مسدسه وهو يفرك يديه وابتسم لى وقال .. يا اخى تجار العملة اللصوص خربوا اقتصاد البلد الآن اطلقت الرصاص على 12 منهم .. وقال يوسف ادريس خشيت ان تكون فى المسدس طلقة اخيرة تسكن صدرى هذه ليست دعوة لقتل التجار ولكنها دعوة لإستعادة هيبة الدولة .
> حين يغيب القانون تحرق الأسعار الناس وتختفى السلع ويشعر الإنسان بالظلم فقد سقط ضحية قرار عاجز ومجتمع ظالم، هل يعقل ان تقف الحكومة حائرة امام قضايا متأخرات الضرائب ثم تفرض ضرائب جديدة على فقراء الشعب لماذا لم تحصل القديم قبل ان تفتش فى جيوب الغلابة، اين الضرائب على رجال الأعمال والمدارس الخاصة والجامعات الخاصة واصحاب الدخول المرتفعة من اثرياء مصر .
> فى كل يوم توقع الحكومة قرضا جديدا دون ان تراعى الزيادة الرهيبة فى حجم الدين العام والشئ الغريب ان مجلس الشعب فى اجازة من كل هذه القضايا لأن لعنة السفر للخارج انتقلت من وزاء الحكومة الى اعضاء المجلس اننى اطالب بوقف الرحلات الخارجية للمسئولين إلا فى حالات الضرورة القصوى فى هذه الظروف الصعبة التى تعيشها مصر اما الرحلات الترفيهية فليس هذا وقتها ومن يريد ان يسافر للفسحة فليتحمل نفقات سفره سواء من اعضاء الحكومة او البرلمان .
> لا ادرى متى يتحمل مجلس الشعب مسئوليته فى مناقشة قضايا ارتفاع الأسعار وكارثة الدولار والانفاق الحكومى المبالغ فيه وقضايا الديون والقروض الخارجية التى تجرى بلا حساب .. وقبل هذا كله قضايا الفساد حيث يتم الأن التصالح فى كل شىء مقابل شىء من المال دون مراعاة للقوانين لأن اخطر الأشياء ان يصبح للفساد قوانين تحميه .
هذه بعض خطايا الحكومة ولكن على الجانب الآخر يقف فصيل من الشعب انتهز الفرصة وحاول ان يجمع المزيد من الأموال من دم الفقراء وامام غياب الحكومة استباح هذا الفصيل كل شىء ..
> إن معركة الدولار مع الدولة يقودها عدد من التجار والمغامرين وفى ازمنة مضت كانت اجهزة الدولة قادرة على ردع جشع التجار ولكن الغريب ان تخوض الحكومة المعركة وكأنها تلعب مباراة فى كرة القدم وفى كل يوم تحقق هزيمة جديدة .. ان البنك المركزى يلقى فى الأسواق كل اسبوع 120 مليون دولار يلتهمها التجار فى يوم واحد ثم يفرضون على الأسواق وعلى الدولة سعرا جديدا .. ان هؤلاء التجار فصيل فاسد من ابناء هذا الشعب والدولة تعرفهم، ان عددا كبيرا من رجال الأعمال تركوا كل انشطتهم التجارية واكتفوا بتجارة العملة لأنها اكثر ربحا واسرع عائدا .. حين اشترى التاجر الدولار منذ شهور بأقل من 8 جنيهات ثم باعه بسعر 15 جنيها فقد حقق ربحا حراما يقترب من 100% اى ان من كان معه 100 مليون دولار اصبحت 200 مليون دون ان يبذل جهدا ولم يدفع ضرائب او مرتبات موظفين او وجع دماغ ولكنه خرب اقتصاد دولة.. على جانب آخر فإن تجار السلع لم يجدوا أحدا يحاسبهم او يواجه نوبات الجشع لديهم فتمادوا فى مواجهة الدولة واستنزاف الشعب .. رغم ان بعض علماء الدين قالوا ان المضاربة على الدولار حرام فلم يتعظ احد، وتمادى التجار والمغامرون فى استنزاف الشعب دون تقدير للمسئولية او معنى المواطنة او الحرص على مصالح هذا الشعب، لا اعتقد ان هناك حكومة فى العالم تركت سعر عملتها ينهار بهذه الصورة السريعة امام مجموعة من التجار المغامرين دون ان تواجه الأمور بحسم وقوة .
> كانت الكارثة الحقيقية ان يجد المواطن المصرى نفسه ضائعا بين سلطة قرار لا تحميه وعصابة من التجار المغامرين استباحت كل شىء والسبب فى ذلك كله هو غياب القانون ..
حين ينسحب فصيل من رجال الأعمال ويتخلى عن مسئوليته الوطنية ويتحول الى تاجر مغامر او سمسار مشبوه ولا يتورع ان يحرم الشعب من حقه فى حياة كريمة فيرفع سعر الدولار ويخفى السلع عن ايدى الناس فهو بذلك يتخلى عن ابسط قواعد الوطنية والإحساس بالمسئولية.. هذا الكلام لا يدخل فى نطاق المواعظ ولكنها الأمراض الإجتماعية التى جعلت الإنسان لا يشعر إلا بنفسه حتى لو سار على جثث الآخرين، نحن امام مجتمع انقسم على نفسه بين حكومة عاجزة وقوانين فى اجازة وعصابة استباحت حقوق الملايين من اجل مصالحها .
والسؤال الآن: ما هو الحل؟!..
> ان تعود للقانون هيبته وان يمارس القضاء حقه فى مطاردة لصوص الشعب من التجار والسماسرة والمسئولين الذين حرموا المواطن من حقه فى حياة كريمة امام الجشع والتحايل، ان تجارة العملة بهذا التوحش جريمة وإخفاء السلع التموينية ورفع اسعارها والاتجار بقوت الشعب جريمة ولا احد يدرى الى متى تصمت الحكومة وهى ترى كل هذه الكوارث التى تحيط بالناس من كل جانب، لا اتصور ان تكتفى الحكومة بعتاب تجار العملة ولصوص القمح والتصالح فى جرائم الفساد ثم تعطى القانون أجازة.
> ان تصرفات الحكومة تتعارض تماما مع الظروف التى تعيشها مصر والأزمة الإقتصادية التى تعيشها، ان سفر المسئولين ومواكب الاحتفالات والبذخ الشديد فى تصرفات المسئولين يؤكد ان هناك حالة انفصام بين واقع الشعب وواقع الحكومة كما ان رغبة الحكومة فى جمع اى شئ من المال جعلها تتهاون كثيرا فى حقوق الشعب فى مسلسلات الأراضى والكسب غير المشروع والضرائب .. ان التصالح ينبغى ان يكون فى ظل اجراءات عادلة وليس فقط للحصول على بعض الأموال للخروج من أزمة.. ان الحكومة تبدو ضعيفة امام رجال الأعمال وامام تجار السلع وامام المضاربين فى سعر الدولار وهذه ليست حكومة .
> يجب أن يكون الشعب رقيبا على ماله وحياته ولا يترك فصيلا من المغامرين يفسد عليه حياته وهذا هو دور ممثلى الشعب لأن غياب الحكومة وغياب البرلمان وغياب القوانين يمثل كارثة حقيقية تهدد أمن مصر وسلامتها.
حين يغيب الحسم فى سلطة القرار ويحصل القانون على اجازة وتسقط الرحمة من قلوب الناس يغيب الانتماء وتتهاوى حصون العدالة ان ازمة مصر ليست فقط فى الإقتصاد وجنون سعر الدولار واختفاء الأرز والسكر ولكنها ازمة اخلاق وضمائر حين تغيب هيبة الدولة ويتحكم مجموعة من التجار والمغامرين فى أرزاق الناس قل على العدل السلام.
..ويبقى الشعر
انتزعُ زمانكِ منْ زَمنِي
ينشَطرُ العُمرْ
تنزِفُ فى صَدْرى الأيام
تُصبحُ طوفـَانَـا يُغرقـُني
ينشَطرُ العالمُ من حوْلي
وجهُ الأيام ِ.. بِلاَ عينيْن
رأسُ التاريخِ .. بلا قدَمينْ
تنقسمُ الشمسُ إلى نصفينْ
يذوبُ الضوءُ وراءَ الأُفقِ
تصيرُ الشمسُ بغير شعاعْ
ينقسمُ الليلُ إلى لَونينْ
الأسْودُ يعصفُ بالألوانْ
الأبيضُ يسقُطُ حتَّى القاعْ
ويقُولُ الناسُ دُموعَ وداعْ ..
<<<
اَنتزعُ زمانِكِ من زَمنِي
تتراجعُ كلُّ الأشياءْ
أذكرُ تاريخًا .. جمَّعنَا
أذكر تاريخًا .. فرَّقنَا
أذكرُ أحلاماً عشْناهَا بينَ الأحزانْ
أتلوَّن بعدَكِ كالأيامْ
فى الصبح ِأصيرُ بلون الليلْ
فى الليَّل ِأصيرُ بلا ألوانْ
أفقدُ ذاكرَتِى رَغمَ الوهْمِ
بأنى أحيا كالإنسَانْ ..
ماذَا يتبقى مِنْ قلبِي
لو وُزَّعَ يومًا فى جَسدَينْ
مَاذا يتبقى مِنْ وجهٍ
ينشَطِرُ أمامِى فِى وجهَينْ
نتوحدُ شوقـًا فى قلبٍ ..
يشْطـُرنا البُعدُ إلى قلَبينْ
نتجَمَّع زَمنًا فى حُلمٍ
والدهرُ يُصرُّ على حُلمَينْ
نتلاقَى كالصبحِ ضياءً
يَشْطرُنا الليلُ إلى نِصفينْ
كلُ الأشياءِ تفرقـُنَا فى زمنِ الخَوفْ
نهربُ أحيانـًا فى دَمِنا
نهربُ فى حزنٍ .. يَهزِمُنا
مازلتُ أقولْ ..
أن الأشجارَ وإن ذبـُلتْ
فى زمنِ الخوفْ
سيَعودُ ربيعٌ يُوقظُها بينَ الأطلالْ
إن الانهارَ وان جَبُنتْ فى زَمنِ الزَّيفْ
سَيجئُ زمانٌ يُحيِيهَا رغم الأغلالْ
مازِلتُ أقولْ
لو ماتتْ كلُّ الأشْياءْ
سَيجئُ زمانٌ يشعرنا أنَّا أحياءْ
<<<
وتثـُور قبورٌ سئمتنَا
وتَصيحُ عليهَا الأشلاءْ
ويموتُ الخوفُ ..يموتُ الزيفُ ..يموتُ القهر ُ
ويسقطُ كلُ السُفهاءْ
لنْ يبقَى سَيفُ الضُّعفاءْ
سيموتُ الخوفُ وتجْمعُنا كلُ الأشياء
ذراتكِ تعبرُ أوطانًا
وتدورُ وتبحثُ عن قلبِى فى كل مكانْ
ويعودُ رمادكِ لرمادى
يشتعلُ حَريقا يحملنَا خلفَ الأزمانْ
وأدورُ أدورُ وراءَ الأفقِ
كأنى نارُ فى بُركانْ
ألقِى أيامى بينَ يديكِ
همومَ الرحْلةِ والأحزان
تلتئمُ خلايا .. وخلاَيا
نتلاقَى نبضًا وحنايا
تتجمًّع كلُّ الذراتْ
تصبحُ أشجاراً ونخيلاً
وزمانَ نقاءٍ يجمعُنا
وسَيصرخُ صمتُ الأمواتْ
تُنبتُ فى الأرضِ خمائلَ ضوءٍ ..انهاراً
وحقولَ أمانٍ فى الطـُرقاتْ
نتوحدُ فى الكونِ ظلالا
نتوحدُ هدْياً ..وضلالاً
نتوحدُ قُبحًا وجمالاً
نتوحدُ حسًا وخيالاً
نتوحدُ فى كل الأشياءْ
ويموتُ العالمُ كى نبقَى
نحنُ الأحياءْ
قصيدة «سيجئ زمان الأحياء» سنة1986