بينى وبين التاريخ علاقة خاصة جدا فهو من أحب الموضوعات إلى قلبى وكثيرا ما أعود إليه بكل مراحله لكى اقرأ الحاضر أو استشف رؤى المستقبل..والإنسان بلا تاريخ صفحات بيضاء والشعوب بلا ذاكرة عمر ضائع ولهذا كنت دائما أدافع عن هذا الجزء العزيز من ثقافتنا وهو التاريخ خاصة أننا نعيش الآن على ذكريات الماضى ولم نستطع حتى الآن ان نضيف لها الكثير..
ولقد توقفت أخيرا عند مفاجأة غير سارة وهى أن وزارة التربية والتعليم قررت إلا يحتوى منهج التاريخ فى الثانوية العامة أى موضوعات تخص ثورتى يناير ويونيو ولابد أن يمضى على الحدثين 15 عاما وإن آخر ثورة فى تاريخ مصر هى ثورة يوليو ولا شئ بعدها..إن السبب فى هذا القرار المتسرع أن سؤالا ورد فى امتحان التاريخ للثانوية العامة هذا العام يقول: ماذا لو لم يلق السيسى خطاب 30 يونيه؟, وقد اعتبر البعض هذا السؤال سؤالا سياسيا أو فيه نغمة نفاق لرئيس الدولة وقد يكون ذلك صحيحا ولكن هل يعنى ذلك حذف ثورتين من أهم الأحداث فى تاريخ مصر الحديث وإرجاء كل شىء عنها لفترة قادمة لمدة خمسة عشر عاما واعتبار ثورة يوليو هى الانجاز الوحيد فى تاريخ مصر الحديث..
نقطة البداية أن فى ذلك تجنيا شديدا على الحقيقة, وفى ذلك أيضا إهدار لحق تاريخى لجيل الشباب فى ثورة يناير, وقبل هذا فإن إسقاط الإخوان المسلمين بعد عام من الفشل فى إدارة شئون مصر يعتبر انجازا تاريخيا بكل المقاييس وكان خروج الملايين من الشعب المصرى والدعم التاريخى للجيش نقطة تحول خطيرة فى انتفاضة هذا الشعب..
لابد أن نتفق أولا على أن ما حدث فى 25 يناير كان انجازا لجيل رائع أنجبته مصر مهما كانت المتغيرات والاتهامات التى لحقت بهذا الجيل وسوف تبقى هذه القضية مثار خلاف لسنوات قادمة حتى يأتى من ينصف هذا الجيل ويضعه فى سياق تاريخى صحيح وموضوعى..
إن سؤالا فى مادة فى إحدى الشهادات لا يبرر إطلاقا حذف ثورتين وخلع رئيسين وكل الأحداث التى تلت ذلك.
وفى هذا السياق أيضا ليس من الإنصاف حرمان الرئيس عبد الفتاح السيسى من موقفه التاريخى حتى وإن ظل مثار خلاف إلا أن من حق الرجل تاريخيا أن يتصدر المشهد وألا ننتظر خمسة عشر عاما حتى يأتى من يقول لنا انه اخطأ أو أصاب ولكننا نحن الشهود على ما حدث كنا ندرك أن الوطن فى كارثة وأن احد أبناء هذا الوطن استطاع أن يقود السفينة بكل التضحية وأن يغير مسارها لترسو على شاطئ الأمان هذه كلمة حق وشهادة ينبغى ألا نسقطها من تاريخ الرجل أو أن ننتظر سنوات حتى يجيء من يضعها فى صفحات التاريخ..
إننى لم افهم ما جاء فى أسباب ومبررات قرار الإلغاء وإن ثورة يوليو هى آخر الثورات فى تاريخ مصر الحديث وانه لا احد يعترف بغير ذلك..إن الشىء المؤكد أن هذا الطرح غير صحيح وغير مقنع لأن ثورة يناير أسقطت رئيسا وثورة يونيو أسقطت جماعة ولا ينبغى وسط هذا كله أن نتجاهل ما حدث من أحداث دامية فى هذه السنوات..نحن أمام ما يقرب من ألف شهيد فى ثورة يناير و6000 مصاب ونحن أمام آلاف الشهداء من رجال الجيش والشرطة ونحن أمام معركة دامية ضد الإرهاب فى سيناء شملت كل ربوع مصر وأصبحت حديث العالم كله فهل من العدل أن نطوى كل هذه الصفحات ونقول إن يوليو كانت آخر الثورات..
إن السؤال الأخطر لماذا نحاول تغييب عقول شبابنا وتشويه ذاكراتهم وإهدار نماذج رائعة من القدوة متمثلة فى هؤلاء الشهداء الذين احتضنتهم شوارع القاهرة فى ثورة يناير وضحوا بأرواحهم على تراب سيناء, لماذا ننتزع من وجدان الأجيال الجديدة هذه اللحظات المضيئة ونحرمهم من دراستها أو معرفتها أو الاقتراب منها..إذا كنا نحاول التخلص من هذه النماذج الرفيعة فماذا يبقى فى وجدان شبابنا هل هم تجار المخدرات وعصابات الفساد ونهب أموال الشعب ومسلسلات البذاءات والانحرافات والشباب الضائع..
سوف يقول البعض إننا أمام أحداث دارت حولها مناقشات واختلافات فى الرأى والمواقف ولابد أن نبتعد عنها قليلا حتى تكون الصورة أوضح..وهنا ينبغى أن تتسم أحكامنا بالعدل والنزاهة هل من وهب الدماء من اجل الكرامة يحتاج إلى شهادة بالوطنية, وهل من مات على ارض سيناء جنديا أو ضابطا أو حتى مواطنا بريئا يحتاج إلى مرسوم بالتضحية..هناك أشياء ثابتة إلا إذا كان البعض بسوء نية ينتظر أن يكتب التاريخ على هواه ليخفى بعض الحقائق التى تخدم أغراضا مشبوهة..هل هناك من ينتظر وجهة نظر الإخوان..وهل هناك من يتصور أن نتوقف عند ثورة يوليو ليكون العهد البائد آخر صفحاتها ويحاول كل طرف أن يبرئ نفسه وإذا توقفنا عند آخر صفحات ثورة يوليو هل نتحدث عن برلمان 2010 ونهب ثروات مصر فى الأراضى والأصول..هل نتحدث عن حكم امتد ثلاثين عاما وترك البلاد أطلالا فى الكهرباء والمياه والطرق..وهل يعنى ذلك إلغاء كل ما تم من الانجازات فى عهد السيسى حتى يمر 15 عاما ويأتى من يتحدث عنها..
منذ سنوات دارت هوجة عشوائية فى مجلس الشعب ووصلت إلى قرار خطير وهو إلغاء مادة التاريخ فى الثانوية العامة ويومها ضحكنا كثيرا وعارضنا القرار حتى تم إلغاؤه ويومها قلت إن تاريخ مصر يدرس فى المدارس الانجليزية فى انجلترا لأنها أم الحضارات فهل يعقل أن نعيد الكرة ونجد بيننا الآن من يحاول إلغاء تاريخ ست سنوات من نضال هذا الشعب ضد القهر والفقر والتخلف ونمنع أنفسنا من الحديث عن أهم حدثين فى تاريخ مصر الحديث وهما ثورة يناير ويونيو..إن هذا ظلم كبير لهذا الشعب وأجياله القادمة..
إذا كانت وزارة التربية والتعليم تريد حذف هذه الأحداث الكبرى من أذهان أبنائنا عليها أن تذهب إلى المدارس الدولية التى انتشرت فى ربوع المحروسة وتدرس لأبناءنا تاريخا مزيفا..هل يعلم المسئولون فى الوزارة أن إسرائيل انتصرت على مصر فى حرب 73 وتصف ثورة يوليو بأنها انقلاب عسكرى وتشوه التاريخ المصرى فى كل مراحله فى مناهج دراسية يدرسها أبناؤنا..إن الأولى بالمسئولين فى الوزارة أن يراجعوا ما يتسلل إلى عقول أبنائنا من حكايات كاذبة وقصص مزورة.
منذ سنوات ونحن نتحدث عن كتابة تاريخ ثورة يوليو ومازال حتى الآن مثار خلافات ومعارك ورغم عشرات المذكرات والكتب والشهادات التى صدرت مازالت الحقيقة غائبة فكيف يفكر البعض الآن فى حذف أحداث ثورتى يناير ويونيو وحرمان أجيالها منها أن فى ذلك ظلما كبيرا لتاريخ هذا الوطن..
بقيت عندى ملاحظات بسيطة..
إذا كانت وزارة التربية والتعليم وقد أخطأت فى سؤال ثورة يونيو وخطاب الرئيس السيسى واعتبرت ذلك عملا سياسيا فلا ينبغى أن تعالج الخطأ بخطأ اكبر وهو أن تلغى من منهج مادة التاريخ فى الثانوية العامة كل ما يتعلق بثورتى يناير ويونيه لأن ذلك إجراء تعسفى لا يتناسب مع روح العلم والتعامل مع الأحداث التاريخية المهمة والخطيرة فى حياة الشعوب.
ليس من حق الوزارة ولا غيرها من مؤسسات الدولة أن تصدر فرمانا باعتبار ثورة يوليو 1952 آخر ثورات مصر فى تاريخها الحديث فلا توجد قوة فى الأرض تحرم شعبا من تاريخه طوال ستين عاما..إن ثورتى يوليو جزء عزيز من تاريخنا ولكنها ليست تاريخ مصر الوحيد..
إن أحداث ثورة يناير ويونيو شارك فيها الشعب والجيش والشرطة وخرجت من صفوف هؤلاء رموز من حقهم أن يسجل التاريخ أسماءهم ومنهم الشباب والشهداء والقادة وشركاء فى سلطة القرار فهل ننتظر خمسة عشر عاما حتى نفصح عن أسماء هؤلاء وأدوارهم وما قدموه..
إن كلمة حظر النشر فى وقائع التاريخ كلمة لا تليق فليس فيها تقدير لحدثين كبيرين ترتبت عليهما آثار بالغة الخطورة..وحظر النشر يسرى على خبر بسيط أو جريمة فى صفحة الحوادث أما أن يصدر عن وزارة التعليم والتربية مصدر الإلهام والقيمة والفكر فأنا اعترض..
بقيت عندى كلمة أخيرة..إن ثورة يناير من حق شبابها وسوف تأتى أجيال تضعها فى سياقها الحقيقى ومكانتها الرفيعة فى وجدان هذا الشعب..وثورة يونيو كانت لحظة مضيئة وسط ظلام دامس ومحنة سياسية رهيبة واجهت فيها مصر حشود الظلام ولا بد أن يأخذ الحدثان مكانة بارزة فى ذاكرة المصريين خاصة الشباب لأن التاريخ ليس من حق جيل يعبث فيه كما يشاء وكل الأحداث الكبرى لها رجالها وشهودها ومن يكتبون عنها وفى مصر الآن جيل ينتظر دوره ولديه سوف تكون الحقيقة..
..ويبقى الشعر
لوْ أنـَّنـَا..لمْ نـَفـْتـَرقْ
لبَقيتُ نجمًا فى سَمائِكِ ساريًا
وتـَركتُ عُمريَ فى لهيبكِ يَحْترقْ
لـَوْ أنـَّنِى سَافرتُ فى قِمَم ِ السَّحابِ
وعُدتُ نـَهرًا فى ربُوعِكِ يَنطلِقْ
لكنـَّها الأحلامُ تـَنثــُرنـَا سرابًا فى المدَي
وتـَظلُّ سرًا..فى الجوَانح ِ يَخـْتنِقْ
لوْ أنـَّنـَا..لمْ نـَفـْتـَرقْ
كـَانـَتْ خُطانـَا فِى ذهول ٍ تـَبتعِدْ
وتـَشـُدُّنا أشْواقـُنا
فنعُودُ نـُمسِكُ بالطـَّريق المرتـَعِدْ
تـُلقِى بنـَا اللـَّحظاتُ
فى صَخبِ الزّحام كأنـَّنـا
جَسدٌ تناثـَرَ فى جَسدْ
جَسدَان فى جَسدٍ نسيرُ..وَحوْلنـَا
كانتْ وجوهْ النـَّاس تجَرى كالرّياح ِ
فلا نـَرَى مِنـْهُمْ أحد
مَازلتُ أذكرُ عندَما جَاء الرَّحيلُ ..
وَصاحَ فى عَيْنى الأرقْ
وتـَعثــَّرتْ أنفاسُنـَا بينَ الضُّـلوع
وعَادَ يشْطـرُنا القـَلقْ
ورَأيتُ عُمريَ فى يَدَيْكِ
رياحَ صَيفٍ عابثٍ
ورَمادَ أحْلام ٍ..وَشيئـًا مِنْ ورَقْ
هَذا أنا
عُمرى وَرقْ
حُلمِى ورَقْ
طفلٌ صَغيرٌ فى جَحيم الموج
حَاصرَه الغـَرقْ
ضَوءٌ طريدٌ فى عُيون الأفـْق
يَطويه الشـَّفقْ
نجمٌ أضَاءَ الكونَ يَومًا..واحْتـَرقْ
لا تـَسْألى العَينَ الحزينة َ
كـَيفَ أدْمتـْها المُقـَلْ..
لا تـَسْألِى النـَّجمَ البعيدَ
بأيّ سرّ قد أفـَلْ
مَهمَا تـَوارَى الحُلمُ فِى عَينِي
وَأرّقنِى الأجَلْ
مَازلتُ المحُ فى رَمادِ العُمْر
شَيئـًا من أمَلْ
فـَغدًا ستنـْبـتُ فى جَبين ِالأفـْق
نَجماتٌ جَديدهْ
وَغدًا ستـُورقُ فى لـَيالِى الحزْن
أيَّامٌ سَعِيدة ْ
وغدًا أراكِ عَلى المدَي
شَمْسًا تـُضِيءُ ظلامَ أيَّامي
وإنْ كـَانَتْ بَعِيدهْ
لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ
حَملتـْكِ فى ضَجر الشـَّوارع فـَرْحتِي..
والخوفُ يُلقينِى عَلى الطـُّرقاتِ
تتمَايلُ الأحلامُ بينَ عُيوننـَا
وتـَغيبُ فى صَمتِ اللـُّـقا نبضَاتِي
واللـَّيلُ سكـّيرٌ يُعانِقُ كأسَه
وَيَطوفُ مُنـْتـَشِيًا عَلى الحانـَاتِ
والضَّوءُ يَسْكبُ فى العُيُون بَريقـَه
وَيهيمُ فى خَجل ٍ عَلى الشُّرفـَاتِ..
كـُنـَّا نـُصَلـّى فى الطـَّريق ِ وحَوْلـَنا
يَتنَدَّرُ الكـُهَّانُ بالضَّحكـَاتِ
كـُنـَّا نـُعانِقُ فى الظـَّلام دُموعَنا
والدَّربُ مُنفطـٌر مِنَ العَبراتِ
وتوقـَّفَ الزَّمنُ المسافِرُ فى دَمِي
وتـَعثـَّرتْ فى لـَوعةٍ خُطوَاتي
والوَقتُ يَرتـَعُ والدَّقائِقُ تـَخْتـَفي
فنـُطـَاردُ اللـَّحظـَاتِ..باللـَّحظـَاتِ..
مَا كـُنتُ أعْرفُ والرَّحيلُ يشدُّنا
أنـّى أوَدّعُ مُهْجتِى وحيَاتِي..
مَا كانَ خَوْفِى منْ وَدَاع ٍ قدْ مَضَي
بَلْ كانَ خوْفِى منْ فِراق ٍ آتي
لم يبقَ شَيءٌ منذ ُكانَ ودَاعُنا
غَير الجراح ِ تئنُّ فى كلِمَاتي
لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ
لبَقِيتِ فى زمن ِالخَطِيئـَةِ تـَوْبَتِي
وجَعَلتُ وجْهَكِ قبْلـَتِي..وصَلاتِي
قصيدة «لو إننا لم نفترق» سنة 1998