توقيت القاهرة المحلي 01:35:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إبراهيم ناجى .. الطائر الجريح فى ليالى القاهرة

  مصر اليوم -

إبراهيم ناجى  الطائر الجريح فى ليالى القاهرة

بقلم : فاروق جويدة

 أحببتُ شعر إبراهيم ناجى قبل أن تشدو أم كلثوم بـ«الأطلال»، تلك القصيدة التى صنّفتها اليونسكو ضمن التراث الإنساني. هى قصيدة العصر بلا منازع، وشاعرها من أرقّ وأعذب الأصوات فى حديقة الشعر العربى، إحساسًا وصدقًا وجمالًا. عشتُ مع شعره سنوات الصبا، وهو أحد أجمل الأصوات التى غنَّت للحب.. درس ناجى الطب، لكنه سرعان ما دخل مملكة الشعر وأصبح من رهبانها.. ورغم زحام المواهب فى عصره، استطاع أن يأخذ مكانه بجدارة.

 

ــــ اتّسم شعر ناجى بالبساطة والرَّصانة والصدق فى وقت واحد.. فى بداياته، كان يُغنّى لنفسه، وأعظم ما يُغنّى الشاعر أن يُطرب نفسه قبل أن يطرب الناس.. أقام ناجى عيادة بسيطة فى أحد أحياء القاهرة، ولم يُحقّق فى الطب إنجازًا كبيرًا، لكنه ارتبط بالفنانين وبسطاء الناس فى المناطق الفقيرة.. ذات يوم، جاءه رجل بسيط يشكو من وعكة صحية، فقال له ناجي: «تحتاج إلى طعام جيد»، وأعطاه أربعة جنيهات ليشترى بها دجاجًا.. وبعد أيام، قابل ناجى الرجل وسأله عما فعل، فأجابه: «ذهبت إلى طبيب آخر كشف عليَّ وعالجني!»..

ــــ تنوعت قصص الحب فى شعر ناجي، ما بين زوزو حمدى الحكيم وزوزو ماضي.. أُثير خلاف حول قصيدة «الأطلال» ومن صاحبة الحق فيها، وخرجت أكثر من فنانة ادّعت أن ناجى كتب لها بعض أبيات القصيدة على «روشتة».. لم تُحسم الحقوق الأدبية للقصيدة، لكن ظلّ ناجى سنوات يزور أم كلثوم ليقرأ عليها قصائده الجديدة.. فى نهاية كل لقاء، كانت تطلب أن تسمع «الأطلال».

ــــ رحل ناجي، وبقيت أم كلثوم تحفظ القصيدة.. وذات يوم، قرّرت غناءها، فجمعت أحمد رامى، وصالح جودت، والدكتور أحمد هيكل.. اختاروا أبياتًا من ثلاث قصائد، من بينها الأطلال وغيّروا بعض الكلمات، مثل مطلع الأطلال:

يا فؤادي، رحم الله الهوى

كان صرحًا من خيالٍ فهوى

غنَّت أم كلثوم الأطلال، وأبدع رياض السنباطى فى لحن عبقرى جعلها من أعظم ما غنَّت كوكب الشرق، رغم غياب صاحبها.

ــــ فى تقديرى أن، شعر ناجى مليء بالقمم التى تألق فيها وأبدع. البعض يعتبر ديوانه الأشهر ليالى القاهرة أجمل إبداعاته، لكنه تميز أيضًا فى «الطائر الجريح» و«وراء الغمام».. ومازلت أعتقد أن ناجى أحب امرأة واحدة فى شعره، لم يكشف قصته معها:

«رفرف القلب بجنبى كالذبيح

وأنا أهتف: يا قلب، اتئد!

فيجيب الدمع والماضى الجريح:

لم عدنا؟ ليت أنا لم نعد!»

إنها قصيدة العودة وهى من أجمل وأرق ما كتب ناجى إحساسا وصدقا.

ــــ واجه ناجى هجوم النقاد، حتى من عميد الأدب العربى طه حسين، الذى قال إن شعره «يطير حين يلفحه الهواء وإنه شجرة فى حديقة أو زهرة لا يتجاوز عبيرها المكان شعره لا يستطيع أن يحلق فى السماء».

سافر ناجى إلى لندن فى مهمة عمل، وبينما كان يعبر أحد الشوارع، صدمته سيارة وكان حزينا لما كتبه طه حسين. كتب يومها:

خرجتُ من البلاد أجرّ سقمى

وعدتُ إلى البلاد أجرّ ساقى

ــــ ولم يكن غريبًا أن يُراجع طه حسين نفسه لاحقًا فى موقفه من شعر ناجى فقد أشاد به وتراجع كما فعل العقاد مع أحمد شوقى، قال عنه «إنه اختار قامة عالية هاجمها لكى يكبر بجانبها» .

كان ناجى فى طليعة شعراء الرومانسية العربية، متأثرًا بشعراء الغرب مثل شيلي، وبيرون، ودى موسيه، وجوته، وفيكتور هوجو، وبودلير.. جمعت الرومانسية العربية أسماء مثل على محمود طه، محمود حسن إسماعيل، أحمد رامى، أحمد فتحى، صالح جودت، والشرنوبى، وظل ناجى من أبرزهم رقة وعذوبة وصدقا.

ــــ على الرغم من أن مطربين آخرين غير أم كلثوم غنوا قصائد ناجى، إلا أن «الأطلال» تصدرت تاريخ الغناء العربى شعرًا ولحنًا وغناءً..

أين من عينى حبيبٌ ساحر

فيه عزٌّ وجلالٌ وحياء!

واثق الخطوة يمشى ملكًا

ظالم الحسن شهى الكبرياء.

ومن أجمل أبيات القصيدة أيضا:

أيها الساهر تغفو

تذكّر العهد وتصحو

وإذا ما التأم جرحٌ

جدَّ بالتذكار جرحُ

فتعلّم كيف تنسى

وتعلّم كيف تمحو

ــــ كان ناجى شجرة شامخة فى حديقة ضخمة اسمها الإبداع المصري.. وتسأل نفسك أحيانًا عن أسرار هذه العبقريات وكيف ظهرت فى زمن واحد.. هل هى المواهب؟ أم المناخ والظروف؟ أم أنه العصر الذى اتسم بروح الإبداع فى كل شيء؛ علمًا وأدبًا وفنًا وجمالًا؟ أم أنه الإنسان المصرى، حين تُتاح أمامه فرص التميز والتفرد والإبداع؟ كان ناجى ابن عصره، ذلك العصر الذى انتشرت فيه المواهب المبدعة فى كل المجالات.. البعض يرى أن التعليم كان فى أرقى درجاته، حين فتحت جامعة القاهرة آفاق المعرفة من أوسع أبوابها، وقدّمت لمصر أفضل أبنائها، هو السبب فى هذه النهضة.. المهم أن ناجى كان امتدادًا لسلسلة ذهبية توجت الثقافة العربية بأروع الإبداعات جمالًا وتميزًا وخلودًا من خلال مواهب شعرية عربية حلقت فى سماء الثقافة العربية وقدمت إبداعا راقيا وشعرا جميلا..

ــــ أحيانًا، يراودنى حنين جارف لمصر الثقافة والإبداع والتفرد، وأقول لنفسي: ليت هذا الوطن يستعيد شموخه، ويستعيد أشجاره الشامخة وإبداعه الجميل.. ليتنا نرى مرة أخرى شوقى وطه حسين والعقاد وكوكب الشرق والنهر الخالد، ويعود النيل شامخًا متدفقًا يروى الأرض ويُحيى البشر.. لم يكن ناجى فقط صاحب الأطلال ولكنه قدم للشعر العربى حديقة غناء من أجمل القصائد، ربما كان الحظ من نصيب الأطلال ولكن القصائد حظوظ مثل البشر.

ما أحوجنا إلى إحياء ذكرى رموزنا، أولئك النجوم الذين أضاءوا وجدان الملايين وعقولهم، وأيقظوا شعوبًا من براثن الجهل والتخلف، وكانوا مشاعل للفكر والفن والإبداع.

ــــ كان ناجى وسيبقى من أجمل وأصدق وأعذب الشعراء الذين تغنوا بالحب وسكنوا القلوب والوجدان.

 

 

..ويبقى الشعر

مَاذا أخذتَ مِنَ السَّفـَرْ..

كـُلُّ البلادِ تـَشَابَهَتْ فى القهْر..

فى الحِرْمانِ .. فى قـَتـْل البَشَرْ..

كـُلُّ العيُون تشَابَهتْ فى الزَّيفِ.

فى الأحزان ِ.. فى رَجْم القـَمَرْ

كل الوُجوهِ تـَشابَهتْ فى الخوْفِ

فى الترحَال .. فى دَفـْن الزَّهَرْ

صَوْتُ الجَمَاجـِم فى سُجُون اللـَّيل

والجَلادُ يَعْصِفُ كالقـَدَر ..

دَمُ الضَّحَايَا فـَوقَ أرْصِفـَةِ الشـَّوارع

فى البُيوتِ .. وفى تجاعيدِ الصٌّورْ..

مَاذا أخـَذتَ منَ السَّفـَر ؟

مَازلتَ تـَحلـُمُ باللــَّيالى البيض

والدِّفْء المعَطـّر والسَّهَرْ

تـَشـْتـَاقُ أيامَ الصَّبابَةِ

ضَاعَ عَهْدُ العِشْق وانـْتـَحَر الوَتـَرْ

مَازلتَ عُصفـُورًا كسِير القـَلـْبِ

يشدُو فـَوْقَ أشـْلاءِ الشَّجَرْ

جَفَّ الرَّبيعُ..

خـَزائِنُ الأنـَهار خـَاصَمَها المَطـَرْ

والفـَارسُ المِقـْدامُ فى صَمت

تـراجَعَ .. وانتحَرْ ..

مَاذا أخـَذْتَ مِنَ السّفـَر ؟

كـُلُّ القصَائِدِ فى العُيُون السُّودِ

آخرُهَا السَّفـَر ..

كلُّ الحَكايَا بَعْدَ مَوْتِ الفـَجْر

آخرُها السَّفـَر ..

أطـْلالُ حُلمِكَ تـَحْتَ أقدام السِّنِين..

وَفى شـُقـُوق ِ العُمْر.

آخُرها السَّفـَر ..

هَذِى الدُّمُوعُ وإنْ غَدَت

فى الأفق ِ أمطـَارًا وزَهْرًا

كانَ آخَرُهَا السَّفـَر

كـُلُّ الأجـِنـَّةِ فى ضَمِير الحُلـْم

ماتـَتْ قـَبْـلَ أن تـَأتِى

وَكـُلُّ رُفـَاتِ أحْلامِى سَفـَر ..

بالرَّغـْم مِنْ هَذا تـَحنُّ إلى السَّفـَر؟!

مَاذا أخذْتَ مِنَ السَّفـَر؟

حَاولتَ يومًا أن تـَشُقَّ النـَّهْر

خَانـَتـْـكَ الإرَادَهْ

حَاوَلتَ أنْ تـَبنِى قـُصورَ الحُلـْم

فى زَمن ِ البَلادَهْ

النبضُ فى الأعْمَاق يَسقـُطً كالشُّموس الغَاربهْ

والعُمْر فى بَحْرالضَّياع الآنَ ألقـَى رأسَه

فـَوقَ الأمَانِى الشـَّاحِبهْ ..

شَاهَدْتَ أدْوارَ البَراءةِ والنذالةِ والكـَذِبْ

قـَامْرتَ بالأيام فى«سِيْركٍ» رَخيصٍ للـعِبْ .

والآنَ جئـْتَ تـُقيمُ وَسْط َ الحَانـَةِ السَّودَاءِ.. كـَعْبَهْ

هَذا زَمانٌ تـُخـْلـَعُ الأثوابُ فِيهِ..

وكلُّ أقدار الشُّعوبِ عَلى الـَموائِدِ بَعض لـُعْبهْ..

هَذا زَمانٌ كالحِذاء ..

تـَراهُ فى قـَدَم المقـَامِر والمزَيِّفِ والسَّفِيهْ..

هَذا زَمَانٌ يُدْفـَنُ الإنسَانُ فِى أشْلائِه حيّا

ويُقـْتلُ .. لـَيْسَ يَعرفُ قـَاتِليهْ..

هَذا زَمانٌ يَخـْنـُقُ الأقمَارَ ..

يَغـْتـَالُ الشُّمُوسَ

يَغـُوصُ .. فى دَم الضَّحَايَا ..

هَذا زَمَانٌ يَقـْطـَعُ الأشْجَارَ

يَمْتـَهنُ البرَاءَة َ

يَسْتـَبيحُ الفـجْرَ .. يَسْتـَرضى البَغـَايَا

هَذا زَمَانٌ يَصلـُبُ الطـُّهْر الـَبرىءَ..

يُقيمُ عِيدًا .. للـْخـَطـَايَا ..

هَذا زَمَانُ الموْتِ ..

كـَيْفَ تـُقِيمُ فوقَ القـَبْر

عُرسًا للصَّبايَا ؟!

عُلبُ القمَامَة زينـُوهَا

رُبَّمَا تبْدو أمَامَ النـَّاس.. بُسْتـَانـًا نـَديّا

بَينَ القمَامَة لنْ ترَى.. ثوْبًا نـَقِيّا

فالأرْضُ حَوْلكَ.. ضَاجَعَتْ كلَّ الخطايَا

كيْفَ تحْلم أنْ تـَرى فيهَا .. نـَبيّا

كـُلُّ الحَكايَا .. كانَ آخرُهَا السَّفـَر

وَأنا .. تـَعِبْت مِنَ السَّفـَر..

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إبراهيم ناجى  الطائر الجريح فى ليالى القاهرة إبراهيم ناجى  الطائر الجريح فى ليالى القاهرة



GMT 21:57 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

لماذا نظرية التطور مهمة؟

GMT 20:30 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

ما تم اكتشافه بعد سقوط النظام السوري!

GMT 20:29 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

المؤثرون فى سوريا ومصالحهم

GMT 20:28 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

شراسة بلوزداد بعد مباراة القاهرة!

GMT 13:39 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

لماذا نظرية التطور مهمة؟

GMT 13:38 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

لماذا يتفوق العلم؟

GMT 13:35 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

لا تنسوا 420 مليونًا عند “الكردي”

GMT 08:40 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

2024 سنة نجاحات مغربيّة

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon