رحل احمد زويل وأخذ معه ما بقى من ذكريات الزمن الجميل وما بقى من احلام جيل هو فى تقديرى من اعظم اجيال مصر فى عصرها الذهبى ثقافة وانتماء وحبا لهذا الوطن..انه الجيل الذى فتح عينيه على ثورة يوليو وكبر معها وحلق بها الى ابعد نقطة فى عالم الأحلام عزة وشموخا ورخاء وعدالة عاش جيلنا فى السنوات الأولى من الستينيات اروع لحظات الحلم شباب فى عمر الزهور واحلام متفتحة ووطن شامخ..
فى هذا الزمان كانت مدينة دمنهور من اجمل وانظف العواصم فى محافظات مصر كان على رأسها وجيه اباظة احد الضباط الأحرار وتحولت المدينة بين يديه الى قطعة من الجمال: الشوارع النظيفة والسينما الراقية والمكتبة ومحطة السكة الحديد بكل أناقتها, كان احمد زويل يدرس فى مدرسة دمنهور الثانوية..وكنت ادرس فى مدرسة عمر مكرم الثانوية وما بينهما مسافة قصيرة فى الزمن والمساحة وكان الصراع والمنافسة بين قطبى المدرستين بهجت مشالى ناظر دمنهور الثانوية والسيد صوان ناظر عمر مكرم وما بينهما كتيبة من المدرسين الأجلاء حيث كان الانضباط والمناهج والأستاذ الفاضل المحترم كان تعليما عصريا متقدما لأن مدرس اللغة العربية عالم جليل ولأن مدرس اللغة الفرنسية تخرج من السربون ولأن مدرس العلوم حصل على بعثات خارجية..
كنت اسمع عن طالب متفوق يعجز اساتذته عن مجاراته فى حل المسائل الرياضية والكيمياء والفيزياء اسمه احمد زويل .. وكانت مدرسة دمنهور الثانوية من اشهر المدارس على مستوى الجمهورية فقد كانت تنافس السعيدية والخديوية والإبراهيمية في المستوى التعليمى والنتائج, اما مدرسة عمر مكرم فكانت مدرسة النخبة فهى صغيرة فى الحجم والمساحة والعدد ولكن نتائجها كانت دائما مبهرة.. وافترق رفاق الدراسة عند محطة القطار..
> كان من عادة أهل البحيرة ان ابناءهم يذهبون الى جامعة الإسكندرية لأنها الأقرب ولكن البعض كان يختار ان يسبح ضد التيار وكنت واحدا من هؤلاء حين اخترت ان ادرس فى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة وكان القسم الوحيد فى كل جامعات مصر كان والدى رحمة الله عليه رافضا للفكرة لأن الأسكندرية على بعد خطوتين بينما القاهرة سفر ومشقة وغربة ويومها تندر والدى على وقال يا بنى الصحافة يعنى مصطفى امين وهيكل فماذا ستفعل انت هناك قلت له انتظر حظى..
ذهب زويل الى جامعة الإسكندرية وحين جاءت عاصفة النكسة وشردت جيلنا قفز زويل من السفينة وسافر فى منحة دراسية الى امريكا..والواقع ان النكسة كانت اكبر كارثة لحقت بجيلنا فقد كانت صدمة فى الأحلام وجرح فى الكرامة وإحباط فى بداية العمر..قليل من ابناء هذا الجيل وجدوا مكانا للدراسة او العمل فى اوروبا وامريكا..وهناك من ذهب الى الدول العربية حيث كانت بشائر البترول قد تأكدت وهناك من اصر على البقاء لأنه لم يجد بديلا او لأنه تمسك بما بقى من حلمه الواهى الضعيف..
مرت سنوات ولم نسمع شيئا عن احمد زويل حتى فاجأنا بالحصول على جائزة الملك فيصل من المملكة العربية السعودية وهى جائزة رفيعة خاصة انه كان شابا فى مقتبل العمر فى ذلك الوقت ومضت عشر سنوات اخرى لتكون المفاجأة الكبرى ويحصد زويل جائزة نوبل فى الكيمياء .. بدأ نجم زويل يسطع ليس فى مصر ولكن فى العالم كله كعالم شاب اختار تخصصا هو الأحدث فى دنيا العلوم وهو الليزر ليكون اكبر علماء العالم فى هذا التخصص..
أطل احمد زويل على المصريين بهذا الإنجاز العلمى والإنسانى المبهر وبدأ رحلته مع احلامه فى تغيير الواقع المصرى وكان رأيه ان نقطة البداية هى التعليم..لم يكن يعلم المستوى الذى انحدر اليه التعليم فى مصر فقد كان آخر عهده به مدرسة نظيفة ومدرس برنس وناظر باشا ومناهج عصرية وهناك مكتبة وملعب وقاعة للموسيقى والرسم كان هذا هو حال المدرسة التى تركها زويل.
> فى البداية استقبلت مؤسسات الدولة الإبن القادم بالحفاوة والترحيب على عادة المصريين فكانت اعلى الأوسمة واسماء الشوارع والمدارس والمحاضرات وامام جاذبية الشاب القادم حاملا نوبل زادت جماهيرية زويل واصبح فى فترة قصيرة ينافس نجوم السينما وكأنه جاء من هوليوود.
لم يحتمل ضعاف النفوس من المسئولين الصغار منهم والكبار جماهيرية زويل وهم الذين جمعوا حولهم بطانة السوء خاصة ان البعض بدأ يتحدث عن طموحاته السياسية وانه لن يكتفى بالعلم وبجائزة نوبل وهنا بدأ مسلسل المطاردة..
فى احتفالية كبيرة تم وضع حجر الأساس فى ميدان جهينة فى مدينة 6 اكتوبر لحلم احمد زويل مدينة زويل للتكنلوجيا والعلوم..وبقى النصب التذكارى شهادة ضد العلم وضد النجاح وضد الوفاء لهذا الوطن سنوات طويلة, وزويل يذهب ويجيء والرمال تحاصر حلمه البرئ فى صحراء 6 اكتوبر وتسربت سنوات العمر من الرجل والبيروقراطية المصرية العريقة تطارده بين مكاتب المسئولين وسراديب السلطة المترهلة حتى فقد الرجل الرغبة فى تنفيذ مشروعه..
كانت الدسائس والمؤامرات تطارد احمد زويل كلما هبط على ارض الكنانة حتى وصل الأمر الى منع محاضراته وندواته اتفقنا يوما فى بداية عام 2010 على ان نقيم لقاء عن الشعر والعلم فى مدينتنا دمنهور وفى دار الأوبرا وتم طبع الدعوات واحتشدت دمنهور لاستقبالنا وتقرر فى آخر لحظة منع إقامة اللقاء لأسباب امنية لأن الأوبرا لن تحتمل الأعداد التى ستحضر اللقاء فى هذا الوقت, شعر زويل بدرجة كبيرة من الإحباط والحصار من الكثير من مؤسسات الدولة وبقى الحال على ما هو عليه.. حلم فى فراغ..وارض خالية..حتى لو كان الثمن مستقبل وطن ومصير اجيال.
> فى هذه السنوات اقتربنا كثيرا (زويل وانا) وكانت لنا لقاءات وجلسات وحكايا وكثيرا ما كنا نذهب ابناء دمنهور احمد زويل ومصطفى الفقى وانا حيث العلم والفكر والشعر الى رحاب الحسين وكأننا نشكو الزمن وما فيه ونطوف عند الفيشاوى ونتحدث فى كل شىء حتى يقترب الفجر ونحن فى الرحاب الطاهرة..
كنا دائما نحرص على زيارة الأستاذ هيكل وفى آخر هذه الزيارات دعانا الأستاذ فى بيته على نيل الجيزة زويل وفاروق العقدة وانا على الغداء وكان يوما ثريا ممتعا فى حواراته وقضاياه..
قال لى زويل يوما ضاحكا هل نتبادل المواقع بين الشعر والعلم قلت له وماذا سأفعل انا مع العلم انا رجل اجيد صناعة الكلمات والعلم يصنع العقول, انت الحاضر والمستقبل كله, هذا زمن العلم وليس زمن الشعر وانا جزء من الماضى الذى نسميه التراث, قال انا موافق على هذه الصفقة قلت ولكن ماذا عن الفلوس لا تنس ان كلانا دمنهورى ماذا عن فلوس الجائزة قال..لا هذا موضوع غير قابل للتفاوض كان خفيف الظل مجاملا ومصريا حتى النخاع وكان محبا لرفاق مشواره من العلماء والمفكرين مقدرا عطاءهم
> كان يسألنى كثيرا عن لحظات الإبداع ودور العقل فيها وكنت اسأله كثيرا عن قضية الجينات وما وصلت اليه من تقدم خاصة مناطق الإبداع وقال يومها هل تعلم ان المخ هو الجزء الوحيد الذى استعصى على العلماء حتى الآن..ولو عاد بى الزمن لدرست خلايا المخ لأنها السر الإلهى الغامض كل مكونات الجسد البشرى الآن اصبحت واضحة امام العلم القلب والكبد والسمع والنظر ولكن المخ هو سر الأسرار.
كنت احب كثيرا احاديث زويل فى العلم كان جديدا وطازجا وعميقا ومقنعا وحين كانت السياسة تجنح بنا فى المشاكل والأزمات والهموم كانت المشاعر تختلف خاصة ان حلم الرجل تعثر كثيرا ولم يعد لديه ما يفعله فقد مضت عشر سنوات ولم يتغير شىء غير ان الأرض التى خصصت لمشروعه قد سطى عليها بعض المسئولين ورجال الأعمال فى عملية غريبة لا أحد يعلم كيف حدثت وفى اى الظروف والأحوال لأنها تخالف كل الأعراف والتقاليد.
> اطاحت ثورة 25 يناير 2011 بمنظومة الفساد والاستبداد وبطانة السوء وعاد احمد زويل يغرد فى الساحة من جديد وكان قرار حاسم من الحكومة بعودة الأرض الى صاحبها ومشروعه واختفت مجموعة الحاقدين على زويل وان بقى جسم الجريمة..
فى هذا التوقيت بدأت السياسة تطل مرة اخرى بين احلام احمد زويل وبدأ يفكر جديا فى ان يترشح لرئاسة الجمهورية معتقدا ان لديه رصيد جماهيرى كبير وان ثورة يناير احدثت تغييرا حقيقيا فى الشارع المصرى خاصة بين اجيال الشباب وان سمعته ومكانته الدولية سوف تكون مشجعا له لاتخاذ هذا القرار..فى تقديرى ان اختلاط احلام زويل ما بين العلم والسياسة قد اضرت به كثيرا وقد دفع ثمن ذلك..واستمر زويل يطارد احلام السياسة حتى جاء الدستور ليقضى على هذا الحلم نهائيا حين منع ترشيح المتزوج من اجنبية لرئاسة الجمهورية.
> فى صخب احداث ثورة يناير قرر صديقى وزميلى الراحل الجميل لبيب السباعى حين تولى المسئولية في الأهرام ان نحتفل بأحمد زويل ويومها اجتمعت كل اجيال الأهرام في احتفالية عرفان جميلة بواحد من ابناء مصر الكبار عاد احمد زويل الى حلمه القديم فى مشروع مدينة زويل بعد معركة ضارية لم يكن له يد فيها لأن الدولة هى التى قررت عودة مشروعه القديم واعادت له الأرض والمبانى..ودارت القضايا فى المحاكم حتى قررت الدولة تخصيص مساحة 200 فدان اخرى لتقام عليها مدينة زويل وقد بدأ المشروع و من المفروض ان يفتتح بداية العام القادم تحت إشراف وتنفيذ القوات المسلحة..
> مرض احمد زويل واكد له الأطباء ان اصابته بالسرطان كانت بسبب الضغوط النفسية التى تعرض لها وكان الإعلام المصرى ضاريا وهو يحطم واحدا من اجمل واغلى رموز مصر فى عهدها الحديث فقد نزلت عليه السهام من كل جانب ولا احد يعرف مصادرها او الأيدى الملوثة التى تحركها..كان زويل يتصل بى ويقول هل قرأت فلان وهل رأيت فلان على الشاشة وهل سمعت الأكاذيب التى ينشرها الإعلام المصرى كل ما حدث معى كان قرارات حكومة مسئولة وانا رجل لا منصب لى ولا سلطان فلماذا كل هذا الهجوم على شخصى..كان العدوان على احمد زويل جريمة مكتملة الأركان وهى من اسوأ الجرائم الإعلامية فى اغتيال الرموز..حاولت يوما ان اتلقى بعض السهام عنه ونالنى من الرذاذ ما نالنى رغم اننى اعلم كل حقائق القصة وما جرى فيها وللأسف الشديد ان كل وثائقها ومستنداتها مازالت فى الجهات القضائية .
> فى الفترة الأخيرة غاب عنى صوت احمد زويل وكنت اسأل عنه الأصدقاء فيقولون انه لا يرد ومنذ شهور قرر ان يشترى مدفنا في 6اكتوبر وكانت وصيته ان يدفن في مصر واستقبلت مصر جثمان ابنها بكل العرفان والحب والتقدير في جنازة عسكرية تقدمها الرئيس عبد الفتاح السيسى وجنازة شعبية شارك فيها الآلاف من شباب مصر الذين وجدوا في زويل القدوة والمثل الأعلى..
فى آخر لقاء بيننا كان مستسلما لقضاء الله فى مرضه وكان متفائلا لأن الأطباء قرروا له العلاج بأحدث ما وصل اليه العلم فى العالم وهى الخلايا الجذعية.. وتحدثنا كثيرا عن احلامه فى مدينته الجديدة وكيف انها ستكون من اهم معالم مصر الحديثة وانه يرى مستقبلا جديدا لمصر وان شبابها الواعد سوف يلحق بالعصر وان مصر الغنية العفية المتقدمة الجميلة قادمة لا محالة..
> فى كلمته فى احتفال قناة السويس كان تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسى من اجل إكمال مشروع وحلم احمد زويل وانا اثق فيما وعد به الرئيس واثق ان جيش مصر لن يفرط فى حلم عالمنا الكبير لأنه لم يكن حلم زويل ولكنه كان وسيظل حلم مصر كلها.
رحل احمد زويل واخذ معه جزءا عزيزا من سنوات البراءة والحلم كان صلبا وهو يرسم هذا الحلم ويدافع عنه حتى سقط شهيدا من اجله..هناك شهداء الأرض وشهداء الأوطان..وشهداء القضايا والأفكار وايضا هناك شهداء الأحلام الكبيرة واحمد زويل كان واحدا منهم.