توقيت القاهرة المحلي 21:35:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يوسف إدريس.. جنون الإبداع وتمرد الفكر

  مصر اليوم -

يوسف إدريس جنون الإبداع وتمرد الفكر

بقلم : فاروق جويدة

كنت دائما معجبا بيوسف إدريس المبدع، وكنت محبا ليوسف إدريس الإنسان، وكنت أعتقد أن شخصية يوسف إدريس تجمع شخصين فى جسد واحد وأن الخلاف بينهما هو خلاف بين الإنسان المبدع والإنسان العادى، وكثيرا ما كنا نتحاور ونختلف وكان من أقرب الكُتاب إلى قلبى.. قلت يوما لنزار قبانى كان ينقصنى شيء من جرأتك وكان ينقصك شيء من خجلى، وكان هذا أيضا الخلاف بينى وبين يوسف إدريس.. كان حادا فى كل كتاباته وكان فى حالة تمرد دائم وكان لا يهدأ مثل أمواج البحر، فهو صاخب دائما كان يعشق نجوميته ويغضب كثيرا إذا انطفأت الأضواء حوله، وكان يحب يوسف إدريس بجنون وكنت تراه فى كل ما كتب..

ــــــ كان يوسف إدريس مختلفا عن كل رفاق مشواره ليس لأنه أكثرهم بريقا، ولكن لأنه كان يعتز كثيرا بقدراته ويراها غير ما لدى الآخرين، كان يوسف إدريس متمردا بالفطرة وكنت أرى فيه شيئا من غرور نزار قبانى وأحلام المتنبى التى خذلته.. اختار يوسف إدريس دائما المناطق الصعبة وكان يحب ويفضل الصدام مع السلطة رغم أنها كانت تعمل له ألف حساب ورغم أنها لم تقدم له شيئا..

ــــــ فى أعمال يوسف إدريس مناطق صدام كثيرة منذ بداياته فى أشهر أعماله «ارخص ليالى» ولكنه فى «الحرام» كان أكثر قسوة وتمردا وفى «بيت من لحم» أخذ لنفسه موقعا فى ريادة المدرسة الواقعية العربية ثم توجته «الفرافير» كاتبا مسرحيا مميزا كان النقاد يؤكدون دائما أن يوسف إدريس رائد القصة القصيرة فى الأدب العربى وكانوا يشبهونه دائما بتشيكوف فى الأدب الروسى، وإن كانت روايات يوسف إدريس أكثر تمردا قلت إنه كان مختلفا عن جيله إحسان عبدالقدوس وفتحى غانم وعبدالحليم عبدالله ومصطفى محمود ويوسف غراب، فقد اختار إحسان قضايا الحب والمرأة، وكان فتحى غانم فيلسوفا مبدعا، أما مصطفى محمود فكان المتصوف الباحث عن اليقين، أما عبدالحليم عبدالله فقد سافر مع شجرة اللبلاب والماضى لا يعود وأصبح من أجمل حدائق الرومانسية فى الرواية العربية وإن نافسه فيها يوسف السباعى فى «رد قلبى» و«نادية» و«ارض النفاق»..

ــــــ فى قائمة الإبداع يأخذ يوسف إدريس مكانة متقدمة تمردا ورفضا، أما صاحبة الجلالة فقد أخذت مقالاته مساحة كبيرة من مشواره وإن جارت على مسرحه ورواياته وإن حركت الكثير من المياه الراكدة.. كانت مقالات يوسف إدريس فى مفكرته بالأهرام صواريخ عابرة للقارات أضاءت شوارع مصر وعقول أبنائها، كانت بيننا حكايات كثيرة أرسلت له الزميلة الكاتبة عايدة رزق تجرى معه حوارا ولم يتردد فى أن يقدم لنا هدية حين قال فى الحوار «نحن آخر الأجيال الهائلة ولا شيء بعدنا» ونشرت الحوار وأثار ضجة، وفى اليوم التالى كتبت إذا كان من حق يوسف إدريس أن يعتز بجيله فليس من حقه أن يصادر إرادة الله فى أن يأتى بأجيال أفضل وفوجئت به يقتحم مكتبى ويقول «من قال إنك شاعر رومانسى لا يفهم أنت شاعر شرس» وضحكنا معا.. كان فى الإسكندرية فى فصل الصيف وحكى لى قصة مع ابنه سامح قال: «جاءنى سامح وطلب منى بعض النقود لكى يشترى كتبا وأعطيته ما طلب وانتظرته لكى أرى الكتب التى فضلها واشتراها فوجدته اشترى كتب فاروق جويدة وصحت فيه لماذا لم تخبرنى وكنت طلبتها منه بإهداء لك»، قلت ليوسف إدريس «على فكرة أنا لا أهدى كتبى ومن أرادها عليه أن يشتريها بحر ماله» أنا سعيد أن كتبى اقتحمت بيت يوسف إدريس ومع أعز أبنائه.. كانت مفأجاة للوسط الصحفى أن يترشح لمنصب النقيب يوسف السباعى ويوسف إدريس وكلاهما روائى واحتار الأصدقاء وفاز المنصب ونجح يوسف السباعى..

ــــــ كان عصرا سخيا فى أحلامه وكتابه وشبابه ورموزه وكان مكتب يوسف إدريس فوق مكتبى فى الأهرام وإذا دخل المكتب يدق على سقف مكتبى فأعرف انه وصل.. كان يؤلمنى كثيرا أن يوسف إدريس الكاتب والإنسان وصاحب الفكر يستحق مكانة أرفع وأن السلطة بخلت عليه وإن منحوه فى آخر أيامه لقب المستشار الثقافى للأهرام، وكان يستحق ما هو أكبر بكثير.. عندما عرضت مسرحيتى الوزير العاشق على المسرح بنجومها الكبار سميحة أيوب وعبدالله غيث كانت المسرحية تعرض فى مهرجان دمشق الدولى وكان يوسف إدريس فى سوريا وعاد إلى مصر، وكتب يومها مقالا بديعا عن المسرحية وقال «لأول مرة فى حياتى، كاتبا ومشاهدا أجلس على أرض المسرح وبجانبى دريد لحام لأشاهد مسرحية الوزير العاشق، فلم يكن هناك مكان نجلس فيه..

ــــــ كان يوسف إدريس كاتبا من طراز فريد فى تمرده ورفضه وقسوته وعاش كل هموم الوطن بحلوها ومرها وكان صادقا فى كل ما كتب.. إن تجربة يوسف إدريس لم تتكرر فقد كان الأجرأ والأشهر والأكثر إثارة للزوابع الثقافية بل والسياسية كان نزار قبانى يقيم أمسية فى معرض الكتاب وبينما كان يقف على المسرح اندفع يوسف إدريس وقام الجمهور يصفق للرمزين الكبيرين وكانت منافسة مشروعة ملأ يوسف إدريس الدنيا صخبا وضجيجا ومازال مكانه شاغرا..

ــــــ كتبت يوما قصيدة كان عنوانها «لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان» وفوجئت به يطلبنى وكنت نصف نائم وقال كيف كتبت هذه القصيدة وأى إحساس زارك وترك لنا هذه المشاعر فى هذه الكلمات.. كان لا يجاملك كثيرا فى الإبداع ولكن يومها قال: قصيدتك هزتنى كثيرا وشعرت يومها بأنها حركت فيه جرحا قديما.. كان من حسنات اليسار المصرى أنه احتضن يوسف إدريس من بداياته فى «أرخص ليالى» حتى اختطفه الأستاذ هيكل وضمه للأهرام.. وقد قدرت له كثيرا موقفه الصامد من قضية التطبيع وكامب ديفيد والسلام العاجز..

 

 

..ويبقى الشعر

 

مَا زلتُ أركضُ فى حمَى كلماتِـى

الشِّعْرُ تاجى والمدَى ملكاتـــــِى

أهْفو إلى الزَّمَـن الجميـــل يهُزُّنـــى

صخبُ الجيَاِد وفرحة ُ الرَّايَاتِ

مازلتُ كالقدِّيـــس أنشـــرُ دعوَتِـــى

وأبشِّـــرُ الدُّنيَــــــا بصُبْـــح ٍ آتِ

مازلتُ كالطفـل الصَّغيــــر إذا بَـــدَا

طيفُ الحنـَان يذوبُ فى لحظاتِ

مَازلتُ أعْشقُ رغْـــمَ أن هزَائمــــِى

فى العشْق كانتْ دائمًا مأسَاتِـــى

وغزوتُ آفاقَ الجمَــــال ولم يـــزلْ

الشِّعْرُ عندى أجملَ الغـــــزوَاتِ

واخترتُ يوْمًا أن أحلـقَ فى المـــدَى

ويحُومُ غيْرى فى دُجَى الظلمَاتِ

كمْ زارنِى شبحٌ مخيـفٌ صــــــامتٌ

كمْ دارَ فى رأسى وحَاصَر ذاتِى

وأظلُّ أجــرى ثمَّ أهــــربُ خائفـــــًا

وأراهُ خلفِى زائغَ النـَّظــــــــراتِ

قد عشْتُ أخشَى كل ضيْـفٍ قـــــادم ٍ

وأخافُ منْ سفهِ الزمان الـْعَــاتى

وأخافُ أيَّـامَ الخريـــــفِ إذا غــــدتْ

طيفـًا يُطاردُنِـى علــــى المـــرْآةِ

مَازلتُ رغمَ العُمْر أشعُــــرُ أننِـــــى

كالطفـْـل حينَ تزُورُنــى هفوَاتِى

عنـْدى يقيــــنٌ أنَّ رحْمَــة خالِقِـــــى

ستكونُ أكبرَ منْ ذنوب حَيَاتِـــى

سافرتُ فى كلِّ البـــــــلادِ ولـمْ أجــدْ

قلبـًا يلملمُ حيرَتــــى وشتــاتِـــى

كم لاحَ وجهـــــكِ فى المنام وزارنِى

وأضاءَ كالقنديل فــى شرُفاتِـــى

وأمامِــــى الذكرَى وعطرُكَ والمـنىَ

وجوانحٌ صارتْ بــــلا نبضــاتِ

ما أقصــــرَ الزمنَ الجميلَ سحابــــة ً

عبرتْ خريفَ العمْر كالنـَّسَمَـات

وتناثرتْ عطـــرًا علـى أيَّــــامنـــــَا

وتكسَّرتْ كالضَّوْء فـى لحَظــاتِ

ما أصعبَ الدُّنيـــا رحيـــلا ًدائمــــًا

سئمتْ خطاهُ عقاربُ السَّاعَـــاتِ

آمنتُ فى عينيـــكِ أنـَّـكِ موطِنِــــــى

وقرأتُ اسْمكِ عنــدَ كلِّ صَــــلاةِ

كانتْ مرايَا العمْر تجْـــرى خلفنـَـــا

وتدُورُ ترْسُمُ فى المدَى خطواتِى

شاهدتُ فى دَنـَـــس البلاطِ معابـــدًا

تتلى بهَا الآياتُ فـــى الحانـــاتِ

ورأيتُ نفْسِــى فى الهواءِ مُعلقــــــًا

الأرضُ تلقينـِـى إلـى السَّمَــواتِ

ورأيـــتُ أقدارَ الشعُـــــوبِ كلعبـــةٍ

يلهُو بهَــا الكهَّــانُ فى الـْبَـاراتِ

ورأيْـتُ أصنــــامًا تغيِّـرُ جلـــدهَــــا

فى اليـوْم آلافـــًا مـــن المـــرَّاتِ

ورأيـتُ مـنْ يمشِــى علـــى أحلامِـهِ

وكأنـَّهَــا جُــثثٌ مـــن الأمـــوَاتِ

ورأيتُ منْ باعُوا ومنْ هجرُوا وَمَنْ

صلبـُوا جنينَ الحبِّ فى الطـُّرُقاتِ

آمـــنتُ بالإنْـسَــــان عُمــــْرى كلـــهُ

ورسمتـُـهُ تاجـًـا علـى أبيـاتِــــى

هوَ سيِّدُ الدُّنـْيـــا وفجْــــرُ زمَانهَــــــا

سرُّ الإلـهِ وأقــدسُ الغــــَايَــــاتِ

هو إنْ سمَا يغدُو كنجم مبْــهر

وإذا هوَى ينحطُّ كالحشـــــراتِ

هلْ يسْتوى يومٌ بكيتُ لفقـــــــــْدهِ

وعذابُ يوم ٍ جاءَ بالحسرَاتِ ؟!

هلْ يستـَوى صُبحٌ أضاءَ طريقنـَا

وظلامُ ليْـل مَر باللعنـــــــاتِ ؟!

هلْ يستوى نهرٌ بخيلٌ جَاحـــــــــدٌ

وعطاءُ نهْر فاضَ بالخيرَاتِ ؟!

أيقنتُ أنَّ الشـِّعْر شاطئُ رحْـلتــــِي

وبأنهُ عندَ الهلاكِ نجَاتِــــــــــي

فزهدتُ فى ذهبِ المعزِّ وسيفــــــهِ

وكرهتُ بطشَ المسْتبدِّ الـعَاتـــِي

وكرهتُ فى ذهبِ المعزِّ ضــلالهُ

وخشيتُ من سيْف المعــزِّ ممَاتِي

ورفضتُ أن أحْيا خيَالا ًصــــــامتـًا

أو صَفحة تطوَى معَ الصفحَـــــاتِ

واخترتُ من صَخبِ المزادِ قصَائِدِي

وَرَفضتُ سوقَ البيْع والصَّفقـَاتِ

قدْ لايكونُ الشِّعرُ حِصْنـــــًا آمنـــًا

لكنهُ مجْدٌ.. بلا شـُبُهــــــــــــاتِ

والآنَ أشعرُ أن آخرَ رحْـلتِـــي

ستكونُ فى شِعْرى وفى صرَخَاتِي

تحْت الترابِ ستختفى ألقابُنــــــــــــا

لا شئَ يبْــقى غيرُ طيفِ رفــــاتِ

تتشابكُ الأيدى.. وتنسحبُ الــــرُّوي

ويتوهُ ضوْءُ الفجْر فى الظلـُمـــاتِ

وترى الوُجُوه على التـُّراب كأنــــــهَا

وشمٌ يصَافحُ كلَّ وشـْــــــــم آتِ

مَاذا سَيبقى منْ بريق عُيُوننـــــــــــا ؟

لا شىء غير الصمْتِ والعَبَــــــراتِ

ماذا سَيَبقى من جَوادٍ جـــــــــــــامحٍ

غيْرُ البكاء المرِّ.. والضَّحكـــــاتِ؟

أنا زاهدٌ فى كلِّ شىء بعْدَمــــــــــــَا ..

اخترتُ شعْرى واحتميتُ بذاتِـــــي

زينتُ أيَّامى بغنوةِ عاشِــــــــــق

وأضعتُ فى عشـْق الجْمال حَيَاتي

وحلمتُ يَوْمًا أن أراكِ مَدينتـــي

فوق السَّحاب عزيزة الرَّايَــــــــاتِ

ورَسَمتُ أسرابَ الجمْال كأنـَّها

بينَ القلوب مواكبُ الصَّــــــــلواتِ

قد قلتُ ما عندِى ويكفى أنني

واجَهْتُ عصْرَ الزَّيْف بالكلِمــــاتِ

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوسف إدريس جنون الإبداع وتمرد الفكر يوسف إدريس جنون الإبداع وتمرد الفكر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon