عرفت قداسة البابا شنودة واقتربت منه، وكانت بيننا قصص وحكايات ما بين الدين والشعر والسياسة، وكان عاشقا للغة العربية وكان عربى الهوى والثقافة رغم دراسته للأدب الإنجليزي، أما الشعر فكان يحفظ الكثير من درر الشعر العربى قديمه وحديثه، وكتب الكثير من قصائد الحب فى شبابه، وقد أحب شعر شوقى كثيرا وكان يتابع بتقدير ما يبدعه الشعراء فى مصر والعالم العربى حتى آخر الأجيال.. التقينا للمرة الأولى فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، ويومها جلسنا فى مقر إقامته بالكاتدرائية فى العباسية.. قرأنا شعرا كثيرا وامتد اللقاء وتجاوز أربع ساعات، وسألت قداسته متى تتناول الغداء فقال أنا صائم فقلت له ولكنى لست صائما وضحك يومها وطلب لى الغداء..
ـــــ فى حوار طويل عن الأديان قال إنه مؤمن بوحدة الأديان السماوية لأن المنبع واحد والغاية واحدة والهدف سعادة البشر والأخلاق غايتها، وقال أحب من صحابة رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحب فيه العدل والتمسك بالحق وهو نموذج للحاكم القوى العادل، وأحب فى سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه فكره وعلمه وفلسفته فى الحياة، وقال أحفظ الكثير من الأجزاء من القرآن الكريم وتشدنى قصص الأنبياء عليهم السلام، ويبهرنى القرآن لغة وصياغة وإلهاما,يومها كنت أريد أن أسمع البابا وكم يقدر الإسلام الدين والعقيدة.. وانتقل الحديث إلى الشعر وبدأ فى قراءة قصائده، بعضها من فترة الشباب والبعض من فترة الرهبنة، وقلت له لو استمر مشوارك مع الشعر لكان ذلك تهديدا لممالك شعرية كثيرة.. كان البابا شنودة عاشقا من عشاق اللغة العربية الرصينة وقبل هذا كان يقول «إننا لا نسكن مصر ولكن مصر هى التى تسكننا» وقد صدق..
ـــــ جاء الحديث عن السياسة لم أقترب من فترة الخلاف بينه وبين الرئيس أنور السادات وشعرت بأنه لا يريد الحديث عن ظروفها وما ترتب عليها خاصة أسباب الجفاء بينه وبين السادات.. قلت له هناك شيء فى شعرك يحمل روحا من التصوف عند ابن الفارض وابن عربى والبوصيرى ومواكب الصوفية فى الإسلام قال صدقنى كما قلت المنابع واحدة..
ـــــ تذكرت البابا شنودة ونحن نعيش فى هذه الأيام أعياد مصر المسيحية وبعد رحيله تلقيت دعوة من الكاتدرائية فى العباسية فى عام 2012 لإلقاء محاضرة عن البابا شنودة شاعرا ويسعدنى اليوم أن أقدم للقارئ بعض ما قلت عن قداسة البابا فى هذه الأمسية التى شهدت حشدا كبيرا من الإخوة المسيحيين قلت يومها.. «كان قداسة البابا مصريا عربيا جذوره راسخة فى تاريخ مصر وقف بصلابة ضد أى تدخل خارجى فى شئون مصر الداخلية، كان وفيا لبلده، محبا لحضارة مصر فأحب اللغة العربية وأحب الشعر العربي، كما أحب الكتاب المقدس وأحب مصر مسلميها ومسيحييها دون استثناء..
ـــــ البابا شنودة بعيدا عن العقيدة هو رمز دينى عظيم من رموز هذا الوطن وقبل هذا كله هو إنسان أحببناه بكل ما تعنى الكلمة من معانى الإنسانية .. كان كتلة من المشاعر الإنسانية وأنا مرة قلت له «الحمد لله يا أبونا إن حضرتك طلعت رجل دين فلو أخذك الشعر لظلمت الكثير من الشعراء»..
ـــــ الله سبحانه وتعالى وضع للبشر مقاييس إحساس ومشاعر وشفافية ونقاء مثل الطيور منها ما يحلق بعيدا ويخترق السماء ويرى الكون من بعيد فتصغر الأشياء أمامه وتتجرد، ويراها على حقيقتها، هذه المشاعر لها بعد دينى أو بعد صوفى وهى قدرات بشرية منحها الله لبعض البشر مثل الأنبياء ومنهم الرموز العظيمة فى حياة البشرية، ومنهم المبدعون الكبار جدا الذين جسدوا للبشر حياة أجمل، وفكرا أرقى وسلوكيات أرفع،.. وأنا أضع البابا شنودة - بعيدا عن أنه كان رمزا للعقيدة المسيحية - بنعتز بيه - فى هذا السياق كشاعر، وأرجو أن تعطونى الحق كشاعر أن أضعه فى هذا السياق.. إنه إنسان تجرد جدا وحلق إلى منطقة بعيدة جدا عن البشر العاديين، ورأى الكون من بعيد فرآه بعين أصفى وبمشاعر أنقى وبإنسان أكثر ترفعا وأكثر نبلا، وأنا أعتقد أن جنازة البابا شنودة كانت تمثل هذه المنطقة فى أعماق المصريين..
ـــــ جانب آخر فى شخصية البابا شنودة هو أنه فعلا كان عاشقا للثقافة العربية وكان جيل البابا شنودة كله هو الجيل العبقرى الذى صاغ منظومة مصر الثقافية والحضارية والفكرية، والتى كانت فعلا رائدة للجميع الكل يتعلم منها السلوك الرفيع، الأخلاق، طريقة الحوار وكيف يكون التعامل مع الآخر.. وفى هذا المناخ تربى البابا شنودة مناخ لطفى السيد ومحمد عبده وسلامة موسى ولويس عوض وطه حسين، والعقاد وخالد محمد خالد وهذه هى النخبة التى تجاوزت حدود الخلافات فى الفكر وفى العقائد وحاولت أن تتحاور بالرقي، وأن تختلف باقتناع وإيمان، البابا شنودة كان جزءا من هذا النسيج ولذلك كان متأثرا بالثقافة العربية رغم أنه كان قارئا جيدا للثقافات الأخرى.. تركيبة شخصية البابا شنودة تركيبة مصرية عربية إنسانية وظهر هذا الخليط فى شخصيته أولاً وفى سلوكياته وفى علاقته بالآخرين وفى ثقافته، أى جمع كل هذه الأطياف.. بالإضافة الى انه عنده ملمح صوفى لا استطيع أن أنكره, ولا اعرف من أين اكتسبه؟ هل من الرهبنة؟ أم من الصوفية؟ وكلاهما نبع واحد..
ـــــ أمام هذا النسيج الذهبى لا تشعر أنك أمام رمز مسيحى إطلاقا ولا رمز دينى بل رمز إنسانى رفيع تجاوز حدود كل هذه الحسابات, وحلق بعيدا جدا فى منطقة يلتقى فيها جميع البشر مهما اختلفت عقائدهم، ومهما اختلفت أديانهم، لكنه يجسد الإنسان كما ينبغى أن يكون عليه الإنسان.. هكذا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجسد فيه كل صفات الرحمة والتسامح والمحبة والبساطة والتلقائية.. هو كان يحب شعبه المسيحى وكان مؤمنا به وملتزما معه بحكم دوره الدينى ولكنه فى نفس الوقت كان هو المصرى الحريص على وحدة شعبه، والحريص على مجموعة قيم جسدت قيمة هذا الشعب، وهى مجموعة قيم ثقافية وفكرية وحضارية كلنا نشأنا عليها.. ونرى قيمة البابا شنودة عند المصريين فى الوداع المشهود وكيف ودعه المصريون بهذا الشكل، كانوا يودعون قيمة التف حولها هذا الشعب، يودعون تاريخا تجسد فى رمز من هذه الرموز، وشعر معه كل بيت فى مصر أن هذا الشخص واحد منه..
ـــــ استوقفتنى بعض المحطات فى شعر البابا شنودة
◙ قصيدة أحقًا كانت لى أم فماتت؟
أحقًا كان لى أمٌ فماتت؟ أم أنى خُلِقت بدون أم؟
رمانى الله فى الدنيا غريبًا أحلقُ فى فضاء مُدلَهِمِّ
وأسال يا زمانى أين حظي بأخت أو بخالٍ أو بعم؟!
وهل أقضى زمانى ثم أمضى وهذا القلب فى عدم ويُتْمِ
وأسأل عن صديق لا أجده كأنى لستُ فى أهلى وقومي
◙ ومن قصيدة همسة حب للبابا شنودة
قلبى الخفاق أضحى مضجعك فى حنايا الصدر أخفى موضعك
قد تركت الكون فى ضوضائه واعتزلت الكلَّ كى أحيا معك
ليس لى فكرٌ ولا رأى ولا شهوة أخرى سوى أن أتبعك
قد تركتُ الكلَّ ربى ما عداك ليس لى فى غربة العمر سواك
ومنعتُ الفكر عن تجواله حيثما أنت فأفكارى هناك
قد نسيتُ الأهل والأصحاب بل قد نسيت النفسَ أيضاً فى هواك
قد نسيت الكل فى حبك يا متعة القلب فلا تنسى فتاك
ما بعيدٌ أنت عن روحى التى فى سكونِ الصمت تستوحى نداك
فى سماء أنت حقا إنما كل قلب عاش فى الحب سماك
هنا نجد المعنى متماشيا مع أسلوب شاعر مثل ابن الفارض وهو إمام الصوفية
كل من فى حماك يهواك لكن أنا وحدى بكل من فى حماك
◙ وفى قصيدة أخرى يقول قداسة البابا شنودة
غريبًا عشت فى الدنيا نزيلًا مثل آبائى
غريبًا فى أساليبى وأفكارى وأهوائى
غريبًا لم أجد سمعًا أفرغ فيه آرائى
يحار الناس فى ألفى ولا يدرون ما بائى
يموج القوم فى هرج وفى صخب وضوضاء
غريبًا لم أجد بيتًا ولا ركنا لإيوائى
وهذه القصيدة تظهر طبيعة البابا شنودة وأخلاقياته حتى فى شبابه وتجرده قبل أن يترهب ويتعمق فى قضايا الدين
ـــــ إن وداع البابا شنودة لم يكن وداعا مسيحيا كان وداعا ــ عربيا إسلاميا ولا أتصور سعادتى وأنا أكتب عن البابا شنودة الرجل الذى أحببته بصدق والرمز العظيم الذى أحاطنا سنوات طويلة بحكمته وأخلاقه وسلوكياته الرفيعة والمواطن المصرى البسيط البشوش الضاحك التلقائى الذى استطاع أن يجمع كل هذه القلوب على محبته..
تهنئة خاصة لقداسة البابا تواضروس الثانى وهو يكمل مسيرة البابا شنودة الذى كان رمزا من رموز الوطن الذى جمعنا دائما على الحب والتسامح..
..ويبقى الشعر
لماذا أراكِ على كلِّ شىء بقايا .. بقايا؟
إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفـًا ..
وينسابُ عطـُركِ بين الحنايا ؟
لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ
فأجرى إليكِ .. وتأبى خُطايا ؟
وكم كنتُ أهربُ كى لا أراكِ
فألقاكِ نبضـًا سرى فى دمايا
فكيف النجومُ هوت فى الترابِ
وكيف العبير غدا .. كالشظايا ؟
عيونك كانت لعمرى صلاة ً ..
فكيف الصلاةُ غدت .. كالخطايا ؟
لماذا أراكِ وملءُ عُيونى دموعُ الوداعْ ؟
لماذا أراكِ وقد صرتِ شيئـًا
بعيدًا .. بعيدًا .. توارى .. وضاعْ؟
تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ
أحسُّـك نبضًا
وألقاك دفئـًا
وأشعرُ بعدكِ .. أنى الضياعْ
إذا ما بكيتُ أراكِ ابتسامهْ
وإن ضاق دربى أراكِ السلامهْ
وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ
تضىء عيونـُكِ .. خلف الغمامهْ
لماذا أراكِ على كل شىءٍ
كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ
كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ
وأنى خـُلـِقـْتُ لهذا السفرْ..
إذا كنتُ أهرب منكِ .. إليكِ
فقولى بربكِ .. أين المفـْر ؟
قصيدة "بقايا سنة 1983"